المؤرخ الفرنسي هنري لورنس: مفاعيل الربيع العربي لم تنتهِ

02 ابريل 2017
لورنس: الرئيس محمود عباس ليس لديه مشروع حقيقي(العربي الجديد)
+ الخط -
يستقبلنا المؤرخ هنري لورنس، في مكتبه داخل "كوليج دو فرانس" في باريس، حيث يشغل كرسي التاريخ المعاصر في العالم العربي، منذ عام 2003، والذي تعتبر مؤلفاته في هذا الميدان مرجعاً لا يمكن للباحث الاستغناء عنها. وقد أنهى للتوّ تحرير كتاب يتضمن مجموعة من المقالات، ويواصل تحرير الجزء الثاني من "أزمات الشرق"، والذي يقول لنا إنه سيتضمن ثلاثة أجزاء: الأول صدر هذه السنة، بعنوان "أزمات الشرق (1768-1914)"، أما الثاني، والذي بدأ في تحريره، فهو يغطي حقبة ما بين 1914 و1979، وهو  عن "الشرق الأوسط"، بينما يغطي الثالث ما بين 1979 إلى يومنا، ولم يعثر له بعدُ على عنوان.

موضوعات متنوّعة يخصص المؤرخ العالمي جزءاً من وقته لـ"العربي الجديد" للحديث عنها، أبرزها: الاعتداءات في أوروبا؛ ما يوصف بأنه إرهاب ديني بصبغة إسلامية؛ ما يسمى حدود "سايكس ــ بيكو" في المنطقة العربية؛ ماذا يريد مقاتلو تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)؛ مستقبل التنظيم بنظر التاريخ والمؤرخين؛ الربيع العربي، لماذا فشل؟ هل انتهت مفاعيله؟ القضية الفلسطينية... في ما يلي نص الحوار:

انطلاقاً من الاعتداء الكبير الأخير في لندن، ما الذي يريده فعلاً برأيك المسؤولون عن هذه الاعتداءات؟ هل هو رفض للديمقراطية كما يشاع هنا في الغرب؟

لدى "الجهاديين" من هذا النوع نزوعٌ نحو رفض الديمقراطية، سواء كانت تلك الديمقراطية غربية أم غير ذلك، بسبب ارتكاز أيديولوجيتهم على فكرة عالَم طوباوي إسلامي، وعلى تطبيق خالص للشريعة الإسلامية. برأيهم، هذا التطبيق الحرفي للشريعة سيزيل كل المشاكل التي يمكن أن نحددها باعتبارها سياسية. ووفق هذه النظرة، يقولون إن حقوق الله مخالفة لحقوق الإنسان، ولكنّ هذا الموقف ليس هو موقف كل التيارات الإسلاموية الأخرى، أو على الأقل لا يقترب موقفها من هذا. أنتَ تعرف أن من يرتكب هذه الأعمال في أوروبا هم أناس بؤساء لا يمتلكون أي مساحة أيديولوجية. يقومون بهذا الردّ كنوع من الحقد والانتقام وإثبات الشخصية، وليس الخطاب الأيديولوجي هو الذي يحفّزهم.

هل تدمير "داعش" في نظركم ممكن، خصوصاً حين نقرأ تأكيدكم أن الحلّ العسكري مستحيل؟

الحركة الجهادية، بالتأكيد، لحقها الوهن والضعف، ليس بالسقوط الوشيك لمدينة الموصل فقط، بل بضياع الكثير من الأراضي التي كانت خاضعة لها، إذ لم تعد لديها البنيات القابلة للتنسيق فيما بينها، وفي هذا الصدد أشار خبراء في مكافحة الإرهاب، في الآونة الأخيرة، إلى انخفاض كبير جداً في الخطابات والفيديوهات والتقنيات التي تبث هذه الخطابات والتسجيلات المصورة من تنظيم "الدولة الإسلامية". بالتالي، من المؤكد أنه في الوقت الذي سيتم فيه القضاء على تنظيم "داعش" في العراق وسورية، يمكن للتنظيم أن يتواصل عبر أشكال سرية، أو أن يركّز على أماكن أخرى، كليبيا أو منطقة الساحل الأفريقي، ولكن تأثيره ووقعه سيكونان أقل مما هما عليه الآن. ثم التأثير والإغواء اللذان يمارسهما التنظيم على الشباب في كل مكان في العالم للقدوم والعيش "بشكل أفضل"، في الفضاء التي يتحكم فيه تنظيم "الدولة الإسلامية"، سيختفيان، لأنه لن يكون ثمة "أراضٍ يتحكم فيها داعش".


اعتبرتم في مقال لكم أن جمال الدين الأفغاني هو "أول ناشط سياسي في الإسلام"، فهل الحركات الإسلامية، الآن، خرجت من رحمه؟

كان لدى بعض أتباع الأفغاني، ومنهم محمد عبده، في مرحلة ما، إغواء لممارسة العنف، ولكن لم يكن هناك تنظيم سري، أو شيء آخر. وحتى أثناء الثورة المصرية، 1882، الأفغاني لم يكن موجوداً في مصر، إذ كان قد طُرِدَ منها، لكن كان كثير من أعضاء الحركة ومن أتباع الأفغاني لا عُنفيّين. كان الأفغاني يمثل ولادة أيديولوجية تجعل من الإسلام "يوتوبيا" لمواجهة الغرب، وهو ما يمثل، لدى الأفغاني، بشكل واضح، سلاحاً سياسياً، من أجل تعبئة الحشود. هل كان يؤمن بنجاح ما يفعله؟ توجد كثير من الشكوك حول هذا. كان الأفغاني يؤمن، بشكل لا يقبل الجدل، بأن "الإسلام وسيلة سياسية". هذا واضح. ولكن هذا لا علاقة له بالجهادية ولا بالاعتداءات. كان الأمر بالأحرى يستهدف تعبئة الحشود والرأي العام والطبقات العليا من المجتمع.

ثمة من يرى أن تنظيم "داعش" استطاع أن يجذب إليه فئات شعبية من خلال رفعه شعار محو الحدود المتوارثة، وضرب اتفاقية "سايكس ــ بيكو". ماذا تقولون عن ذلك؟

لو كانت هناك نية ضد الحدود الراهنة، لتم إلغاؤها منذ زمن طويل. إن الأمر من صميم "البروباغاندا". الحدود وفق "سايكس ــ بيكو" لا وجود لها، الحدود الحالية هي وريثة نتائج الحرب العالمية الأولى. وهذه الحدود استقرت وتعززت بسبب وجود مصالح قوية، وطبقات سياسية أنشأت الدولة السورية والعراقية، إضافة إلى دول الخليج. ولكن لماذا لم يتمّ إلغاء هذه الحدود؟ لأنه بكل بساطة، دمشق لا تريد الخضوع لبغداد، وبغداد لا تريد الخضوع لدمشق. والمرة الأولى التي كانت فيها نية حقيقية لإلغاء الحدود، في إطار اتحاد الجمهوريات العربية، بين سورية ومصر، لم تنجح المحاولة. ليس بسبب عدم وجود حدود بين البلدين، بل لإحساس السوريين بوطأة الهيمنة المصرية.

ما رأيك في كثير من القراءات التي لا تأخذ بعين الاعتبار فكرة "الخلافة" لدى تنظيم "داعش"، بل تعتبرهم مجرد شباب انتحاريين، بسبب يقينهم المسبق بفشل مشروعهم الذي يعاديه العالَم بأسره؟

كنت أودّ لو أني أعرفهم، ونحن لا نعرفهم بشكل جيّد. ما يمكن أن نقوله هو أنه يوجد على هَرم "الدولة الإسلامية" أناس يحاربون منذ عقود، من زمن أفغانستان وتنظيم "القاعدة" وغيرهما. أناس هم نتاج حُروبٍ وكثير من مظاهر العنف. ثمة عامل مجتمعي، إذ يمكن أن نجد أناساً كانوا ضحايا لقمع نظام صدّام حسين، ثم ضحايا الاحتلال الأميركي... هم، بالتأكيد أناس نشأوا وتدربوا في العنف. هل لديهم مشروع إلى نهاية الزمن؟ هذا ممكن، هو جزءٌ من دعايتهم. هل يؤمنون بذلك؟ من الصعب معرفة ذلك. ولكن في الإسلام وفي غيره من الديانات يمكن العثور على أناس "قيامويين" ينتهي بهم الأمر بانتحار جماعي. وهذا ما جرى لدى غير المسلمين خلال العقود الأخيرة.

"أن تفسّر يعني أنك تبرّر"، هكذا قال مانويل فالس، منتقداً عمل علماء الاجتماع الذين حاولوا شرح ظاهرة الإرهاب. ما هو رأيكم؟

يتعلق الأمر بأقصى حالات العنف، كما حدث في الحرب العالمية الثانية مثلاً. الموقف الاحتفالي يستخدم لغة المقدّس وليس لغة التحليل التصوُّري. إذا أردنا الحديث عن تدمير يهود أوروبا فإن الصُوَر رهيبةٌ، فيتم وضع أناشيد دينية. وبهذا المعنى، فإن كل محاولة تفسير تُصبح أو يُنظَر إليها من قبل أطياف من الرأي العام باعتبارها تدنيساً. وهو مثلاً موقف لانْزْمان في فيلم "المحرقة"، والذي مفاده أنه لا يمكن أن نفسر النازية، لأن محاولة التفسير هي نوع من الدخول في لعبتها. ولكن المؤرخين يعترضون ويقولون إنه بالإمكان إنجاز تحليل تاريخي للأسباب والسيرورات للنازية، من دون الدخول في أي نوع من الخطابات التبريرية للنازية.


نصل الآن إلى "الربيع العربي"، ما هي قراءتكم له؟ هل نجح في تونس، ولماذا لم ينجح في مصر وسورية؟

كان الربيع العربي تشكيكاً واتهاماً للأنظمة الاستبدادية، في شرعيتها وفي فعاليتها في آنٍ واحد. هذه ضربة وُجّهت للأنظمة المستبدة، وهي ضربة يصعب عليها أن تنهض منها. الأمر الثاني يتعلق بمفارقة هي أن "الربيع العربي" كان أول حركة في التاريخ، ربما، تُعلن أنها حركة عادية، إذ من عادة أي ثورة أن تغير الناس والقوانين والمؤسسات. المطلب الأساسي للربيع العربي هي الحقوق الديمقراطية والحقوق الاجتماعية. ولهذا فإن الناس الذين هاجروا إلى الغرب كانوا يمثلون استمرارية للربيع العربي بمعنى أنهم يبحثون عن دولة قانون، إذ ليس بوسع العالَم العربي أن يحقق لهم ما يريدون. وعلى الرغم من كل ما حدث، فإن الأمر لم ينته بعد. لو كنتَ في سن العشرين سنة 2011، فأمامَكَ نصفُ قرن من الحياة السياسية. ما هو أساسي في "الربيع العربي" هو إنشاء عالَم ونظام مرجعيات وممارسة سياسية سيدوم عقوداً من الزمن في المجتمعات العربية.

وإذا ما أجريت مقارنة بسيطة، فبعد وفاة جوزف ستالين، حدث ما أطلق عليه "ذوبان الجليد" في الاتحاد السوفياتي الذي كان من بين ملامحه ظهور بعض الحريات الفردية والانفتاح. ثم بعد رحيل نيكيتا خروتشوف عاد النظام التسلطي. وميخائيل غورباتشوف كان في العشرين من عمره أثناء "ذوبان الجليد". ثم وصل إلى السلطة بعدها بنحو ثلاثين سنة. وما حاول أن يطبّقه كانت أفكار شبابه. لهذا، فإن الحمولة الطويلة لـ"الربيع العربي" لا تزال مجهولة بشكل كامل. أما ما نشاهده اليوم، فللأسف، هو عبارةٌ عن مجتمعات مريضة في سورية والعراق، تعيش في معاناة رهيبة، وما يتخلل الأمر من تهجير للسكان، وآلاف الضحايا، وهو ما نطلق عليه في التاريخ عبارة شعوب تعرضت بشكل عميق للعنف. ليس هذا هو الربيع العربي، بل هو احتضار للنظام المتسلط وللتدخلات الخارجية. وهنا نجد صعوبة في رؤية كيف يمكن لهذه الشعوب أن تخرج من هذه الوضعية، والتخلص من الحمل الطويل للأنظمة الاستبدادية التي عاشوا في كنفها.

يوجد أملٌ، دائماً ثمة أمل. لقد أدت الأحداث إلى هجرة أكثر من مليون شخص أتوا من الشرق الأوسط إلى أوروبا لينضموا إلى المهاجرين السابقين. وفي السنوات العشر أو العشرين المقبلة، سيؤثّرون على الشرق الأوسط، إذ سيستقرون في أوروبا ويعملون وينجبون أبناء لهم ثقافة مزدوجة. وسيكون لهذا تأثيره الخاص على مستقبل المنطقة.

ماذا عن فلسطين الآن؟ هل كان الأمر سيكون أفضل للفلسطينيين لو كانوا "بوذيين"، وأنا أستعير تعبيراً سابقاً لكم؟

كنت أقصد اللبنانيين، وقلت لو أن اللاجئين الفلسطينيين كانوا بوذيين، لتمّ منحهم ثلاثة نواب بوذيين ووزيراً بوذياً في لبنان، وحينئذٍ تجد القضية حلاً لها. إنها مشكلة اللاجئين الفلسطينيين ولكن أيضاً مشكلة اللاجئين السوريين والعراقيين، وهي أنهم حين يتحركون خارج حدود بلدانهم يزعزعون التوازن الداخلي في البلدان المضيفة، فلا يضيفون عاملاً جديداً، بل يغيرون التوازن الداخلي لمجتمعات الاستقبال. وفي لبنان يقولون إن عبقرية (الأمين العام لحزب الله) حسن نصرالله تتمثل في جلب مليوني سنيّ إضافي إلى لبنان. وفي ما يخص القضية الفلسطينية، فأنا خارج للتو من نقاش حولها. الوضع سلبي، ولا نرى أي حل سياسي في الأفق المنظور، لأن الحكومة الإسرائيلية تجعل تطبيق حل الدولتين مستحيلاً على الأرض. وانطلاقاً من هنا، وعلى اعتبار أن حل الدولة الواحدة للجميع غير ممكن بالنسبة للعقل الإسرائيلي، باعتباره انتحاراً سياسيّاً لإسرائيل، لا يبقى الشيء الكثير ما عدا تفاقم الوضع الحالي السيئ. النظام الأمني الإسرائيلي يزداد قمعية مع مراقبة منظمة للسكان الفلسطينيين وهو ما يسبب العنف، والذي يُولّد عنفاً مضاداً، ويجعل الشعبين في حالة كراهية.

ولكن لا علاقات إنسانية حتى بين مكونات الحركة الوطنية الفلسطينية؟

الرئيس محمود عباس ليس لديه مشروع حقيقي. المشكل الحالي هو أنّ السلطة الوطنية الفلسطينية تظل ضرورية ولا غنى عنها، لأنها مصدر رزق لآلاف من الناس، لآلاف الموظفين الذين يُعيلون آلاف العائلات، فلا يمكن أن نطالب السلطة الوطنية بحلّ نفسها وإلا سيكون الخراب لقسم كبير من الفلسطينيين. وفي الوقت نفسه، نحن أمام وضعية بليدة وعبثية، إذ إن الدعم الاقتصادي الدولي، خاصة الغربي، يُموّل السلطة الوطنية الفلسطينية التي أصبحت وسيلة من وسائل الاحتلال الإسرائيلي.

هل من مصداقية، في نظركم، لما يشاع عن تغيير قريب من قبل حركة حماس لاستراتيجيتها تجاه إسرائيل؟

يتعلق الأمر بنقاشات حول ميثاق جديد، يكون مُلطَّفاً بشكل كبير، مقارنة مع الميثاق الأول. لكن يجب الاعتراف بأن الميثاق السابق كان عبارة عن وثيقة سوريالية. النص يستحق أن يخضع للتجديد والمراجعة. السؤال الرئيس هو معرفة إنْ كانت فلسطين سَتَرِدُ باعتبارها "أرض وَقْف إسلامي". وإذا ما غيّرت "حماس" هذا البند، فإن إمكانات مفاوضات يمكن أن تفتح. لكن علينا انتظار ظهور النص الجديد.

ما هو رأيك، كمؤرخ، في تصريحات المرشح إمانويل ماكرون عن الاستعمار الفرنسي للجزائر باعتباره جريمة ضد الإنسانية؟

يجب قراءة الحوار الذي أجرته معه مجلة "تاريخ" لهذا الشهر، وهو نص أكثر ذكاء من الفقرات التي تم اجتزاؤها في الصحافة. يمكن انتقاد استخدام تعبير "جريمة ضد الإنسانية"، باعتباره مصطلحاً قانونياً، وبالتالي كي تكون له قوة، هناك حاجة إلى حكم قضائي، وليس إلى تصريح زعيم سياسي. وإلا فإن الأمر يتعلق باستعارة. وقد قالها ماكرون بشكل واضح حين شدد على أنه لا وجود لإظهار الندم والتأسف، ولكن كذلك يجب الاعتراف أنه في ما يخص المثال الجزائري، فإنها شهدت حالات عنف بالغ القسوة، ثم أكد، في الأخير، على أن المسؤولية ليست مسؤولية كل الفرنسيين في الجزائر. يجب القول إن ماكرون له معرفة عميقة بالتاريخ المعاصر، وهو ما لا نجده لدى بعض المرشحين الآخرين، كفرانسوا فيون، الذي هو من الناحية الفكرية، في وضعية دنيا، على الأقل في هذا الموضوع.
المساهمون