إيران و"طوق النجاة"

28 نوفمبر 2015
+ الخط -
حين ارتضت إيران أداء دور ثانوي في المنطقة، بعد التدخّل العسكري الروسي، بَدَت وكأنها قد "انحنت" للضجيج الآتي من الشمال. من الطبيعي ألّا تريد بلاد فارس خسارة ما اكتسبته في العقود الثلاثة الأخيرة في المشرق العربي، في العراق وسورية ولبنان. من الطبيعي، أيضاً، ألّا تسمح بأي نفوذ لحليف أو صديق، فأي تسليم بمشاركة منطقة نفوذ مع الحليف أو الصديق يُشرّع الأبواب أمام تحوّل هذا "الحليف" أو "الصديق" إلى خصمٍ أو عدو.
انتظر الإيرانيون اشتباكاً ما بين الروس والأتراك. للتاريخ والجغرافيا والسياسة أحكامها. يعلم الإيرانيون جيداً أن في أنقرة وموسكو رئيسين يعشقان التاريخ، ويستمدّان منه زعامتهما. ما يؤثر، بالتالي، على حكمهما السياسي والاقتصادي. تلك الروحية القومية وحدها التي تبقى دائمة الحضور في خطابات الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وفي خطابات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان. القومية التاريخية هي التي برزت يوم 24 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي الذي تحوّل إلى يومٍ تاريخيّ، أشبه بأيام الحروب الروسية ـ العثمانية (التركية) القديمة. وفي اللحظة التي أسقطت فيها مقاتلات تركية طائرة "سوخوي 24" الروسية، بدا جلياً أن الطريق باتت معبّدة أمام الإيرانيين لفعل شيءٍ ما.
في الأساس، يحتفظ الإيرانيون بعلاقاتٍ متينة مع كل من تركيا وروسيا، مع أنها تعاني معهما بعض الشيء. في ملف الأكراد، تبدو العلاقة غير مستقرة بين طهران وأنقرة، وسط تعدّد الولاءات والانتماءات، من مهاباد الإيرانية إلى ديار بكر التركية، وما بينهما من إقليم كردستان. في ملف بحر قزوين وأنابيب الغاز المتجهة إلى عمق وسط آسيا، تسعى طهران إلى رفع مستوى شروطها مع موسكو، بعد رفع العقوبات الدولية عنها، نتيجة توقيعها الاتفاق النووي مع الغرب. وخارج العلاقة المباشرة، تنظر طهران بتوجّس للتدخل الروسي العسكري في سورية، وإعلان رغبته بتدخّل مماثل في العراق، كما أجرى مناورات عسكرية في البحر اللبناني، مغلقاً معظم مسارات حركة الطيران الأسبوع الماضي.
لإيران مخاوف عدة، من احتمال "سرقة" الروس كل جهودها في ترسيخ نفوذها في المنطقة، وصولاً إلى البحر المتوسط، فضلاً عن إطاحة نفوذها داخل كل بلد من بلدان المشرق العربي. كما تخشى إيران الجار التركي الذي نما، بوتيرة متصاعدة، في العقد الأخير اقتصادياً، وبات قوة اقتصادية تُهدَّد وتُهدّد أوروبا. مع ذلك، حافظ الإيرانيون على رباطة جأشهم، منتظرين اللحظة التي أتت، والتي ستُؤدي إلى تصادم روسي ـ تركي.
يتيح هذا الانتظار لإيران كسب الكثير. منظومة "إس 300" التي أعلنت روسيا أنها ستُسلّمها للإيرانيين، وعدم إبداء رأي سلبي ضد ضخ الإيرانيين الغاز إلى وسط آسيا. في المقابل، وعلى الرغم من انتقادها العلني إسقاط أنقرة الطائرة، بدت طهران هادئة عبر تشديد وزير خارجيتها، محمد جواد ظريف، في تعليقه على الحادثة، على أن "أي خطوة تؤدي إلى تصعيد التوتر، وتعقيد الوضع، ستوجه رسالة خاطئة للإرهابیین".
تريد إيران الحفاظ على ستاتيكو هادئ بين روسيا وتركيا، على الرغم من طابع التحدّي والاستفزازات المتبادلة بين البلدين. التحرّكات الروسية ستُمسي أكثر حذراً، وتركيا ستضطر للتعامل مع الروس قوة موجودة، وسيحسبون جيداً كلفة إقامة "المنطقة الآمنة"، بوجود الروس. إيران ستكون على الخط أيضاً، في حال اضطرّت إلى أن تكون طرفاً ثالثاً لهما، أو نقطة التقاء.
يُفيد الواقع بأن المقاتلات التركية فرملت الجنوح الروسي الكبير في سورية، خصوصاً إثر اعتماد موسكو مبدأ "الحسم السريع"، في بعض أرياف حلب وإدلب وحمص وحماه واللاذقية، قبل الوصول بأوراقٍ سياسية، معزّزة بواقع ميداني، لم تتطابق مع حساباتها، إلى مؤتمر فيينا منتصف ديسمبر/كانون الثاني المقبل. لكن الواقع عينه يفيد بأن الأتراك باتوا أكثر حذراً بالتعامل مع الروس، أما الإيرانيون فقد وجدوا "طوق النجاة" الذي يحمي نفوذهم حتى إشعارٍ آخر.
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".