لبنان قبل يومه التالي
دائماً ما يسبق أيَّ تطور عسكري حراكٌ سياسيٌّ مكثّف. في الحالة اللبنانية، بدا الأسبوع الماضي حافلاً بأمرَين: الأول، زيارات متلاحقة لمسؤولين غربيين وعرب من أجل بحث ما يُمكن فعله عند الحدود اللبنانية مع فلسطين المُحتلّة، تحديداً لمنع تحوّل المواجهات بين حزب الله والاحتلال الإسرائيلي حرباً شاملةً. الثاني، تتالي الدعوات من دول أجنبية إلى رعاياها بمغادرة لبنان، باستثناء الأميركيين، حتّى كتابة هذه السطور، الساعين إلى وقف التدهور المتسارع في أنماط القتال في الجنوب اللبناني والشمال الفلسطيني المُحتلّ.
تشبه هذه الحقبة ما حصل في العراق قبل الغزو الأميركي في مارس/ آذار 2003، حين تسارعت اللقاءات والجولات مع المسؤولين العراقيين، قبل بدء زحف أولى القوّات البرّية الدولية، الأميركية خصوصاً، إلى بغداد. فشلت المحاولات. ربّما كان مُقدّراً لها الفشل، أو مخطّطاً له. أمر يبقى للتاريخ. الفارق الوحيد بين لبنان 2024 والعراق 2003، عنصران: الأميركي والترسيم الحدودي البحري بين اللبنانيين والإسرائيليين في عام 2022، برعاية أميركية. يبدو المشهد وكأنّ واشنطن عالقةً بين حليفَين، أحدهما مُصنّف قاعدة أساسية لها في الشرق الأوسط، والآخر مُعتبرٌ الطفلَ الأبدي الذي يحتاج إلى رعاية لا تنتهي، مع تعدّد رُعاته عبر التاريخ. مع أنّ الصورة ليست كذلك، لكنّها هكذا تتمظهر. في المقابل، شرّع ترسيم الحدود البحرية في 2022 الأبواب، في حينه، للحديث عن مرحلة يُستعاد فيها اتّفاق الهدنة الموقّع في عام 1949، بين بيروت وتلّ أبيب. حتّى إنّه كانت هناك قناعة في لبنان بأنّ "الحرب الكبرى"، باتت مُؤجّلةً حتّى إشعار، وحتّى إنّها قد لا تقع، استناداً إلى السنوات التي تلت صدور القرار 1701، الذي أوقف العدوان الإسرائيلي على لبنان في صيف 2006.
تغيّر كلّ شيء اليوم، إذ رغم الحديث الإسرائيلي، أخيراً، في إعطاء الأولوية للتسوية مع لبنان، واستطراداً حزب الله، غير أنّ التحرّكات العسكرية الإسرائيلية، والتصاريح المتضاربة بشأن الرغبة في الحرب أو في التسوية، تجعل من الإرباك أو الحرب النفسية سلاحاً أساساً في هذه الأيام. لكنّ مفهوم التسوية، في حدّ ذاته، غير متوازن. إذا اعتبرنا أنّ المشكلة في لبنان، بالنسبة للإسرائيلي، متّصلة بحزب الله وإيران، فما الذي تعنيه إذاً المنشورات التي ألقاها جيش الاحتلال أخيراً، في الجنوب اللبناني، وفيها حرفياً: "هذه أرض إسرائيل التي يملكها اليهود، مطلوب منك الإخلاء فوراً"؟ حسناً، لنفترض أنّ الترسيم البرّي للحدود بين اللبنانيين والإسرائيليين حصل غداً، بما فيه مزارع شبعا، ما الذي يضمن عدم سعي الاحتلال إلى ترجمة منشورات كهذه مُستقبلاً، في لحظة ما؟
في الوقت الحالي، لم يعد الحديث مُجدياً. ترتفع البنادق بكثرة في طرفي خطوط التماس. سيستمرّ الأميركيون حتّى آخر لحظة في الدفع إلى تسوية بين حزب الله وإسرائيل، وسيواكبون كلّ مرحلة من مراحل القتال، متى اندلعت الحرب الواسعة، كما فعلوا في غزّة، وصولاً إلى متابعة جولات وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، المستقبلية والمخصّصة لـ"وقف النار على الجبهة اللبنانية وتأمين المساعدات للناس..."، وغيرها من الأدبيات المعروفة في أزمنة الحروب. في لحظةٍ ما لن يبقَى سؤال: "من أطلق الرصاصة الأولى؟" مطروحاً، بل في كيفية إنهاء الحرب من دون "كسر" طرفٍ مُحدّد. في هذه الحالة، يبدو مفهوم الاستنزاف الأكثر تعبيراً عن المواقف التائهة وغير النافعة، التي ستصدر تباعاً.
أما اليوم التالي لبنانياً، فأمر آخر. هناك من يرفض في الأساس لبنان بحدوده الحالية، وهناك من يدعو إلى لبنان أصغر، وهناك من يُصرّ على أنّ لبنان "محافظة سورية"، وغيرها من المصطلحات التي تُنكر وجود البلاد وطناً. لا يمكن منع الناس لا من الكلام ولا من التفكير، يكفي أنّه لا دولة فعلية في لبنان، وهذا وحده أكبر سبب لخسارة أيّ حرب، والعجز عن بناء مداميك أيّ يوم تالٍ.