هل فاجأت المبعوثة الأممية الليبيين؟
يدرك الليبيون أن بلادهم أصبحت وجهة لمرتزقة كثيرين، وأن ولاة أمورهم (الذين فُرضوا عليهم)، لم يدّخروا جهداً، ولم يبخلوا بدينار أو دولار، من أجل استجلاب هؤلاء من مشارق الأرض ومغاربها، وكانوا كرماء معهم إلى أبعد حد، فعلى الرغم من كل المشكلات الاقتصادية التي يعاني منها البلد، إلا أن هؤلاء المرتزقة يتقاضون أجورهم بالعملة الصعبة، الأجور التي عجز الليبيون عن الحصول عليها، بعملتهم السهلة التي تتهاوى أمام أعينهم في كل يوم. ويدرك الليبيون، أيضاً، أن بلادهم مستباحةٌ من دول كثيرة سعت، منذ وقت ليس قصيرا، إلى إنشاء قواعد عسكرية لها، وأن الهجوم على العاصمة طرابلس قد سرّع من إنشائها، بل وأعطى المبرّر لمن يدافعون عنها بالتحالف مع دولٍ كانت تنتظر هذه الفرصة، لتضمن نصيبها من بلدٍ مزّقته الحروب، وحالت أطماع مسؤوليه وسعيهم الدؤوب إلى الحصول على المناصب، من دون التوصل إلى توافق يضمن الحفاظ على الوطن، أو على الأقل على ما تبقى منه.
وعلى الرغم من هذا الإدراك، إلا أن تصريحات رئيسة البعثة الأممية بالإنابة، ستيفاني وليامز، في الاجتماع الثاني من الجولة الرابعة لملتقى الحوار الليبي، عن عدد القواعد الأجنبية في ليبيا، والذي وصل إلى عشر، تُدار جزئيا أو كليا بقوات أجنبية، قد أثار استغراب ليبيين كثيرين ودهشتهم، فالعدد لم يكن متوقعاً، ولم يسبق لأي مسؤول ليبي من الشرق أو الغرب أن أشار إليه، إلا إذا كانوا هم أيضاً جاهلين به. وفوجئ الليبيون أيضاً بعدد المرتزقة الذي وصل إلى عشرين ألفاً، حسب ما صرحت به المندوبة، على الرغم من أن كثيرين منهم توقعوا ذلك، خصوصا بعد مشاهدتهم التقارير الإخبارية التي تناولت، وبالصوت والصورة، الجسور الجوية التي تنقل المرتزقة والسلاح، إما لدعم هذا الطرف أو ذاك، على متن ما تبقى من طائرات الليبيين المدنية التي طالما عجزت عن نقل حجيجهم إلى الأراضي المقدّسة، وأخفقت في نقل مرضاهم إلى الدول التي يمكن أن يحصلوا فيها على مشفى يعالجهم، أو مطعومٍ لأطفال عجزت حكوماتهم عن توفيره، تلك الجسور الجوية التي لم يؤدّ إيقاف الصراع المسلح إلى الحدّ منها أو تخفيض وتيرتها.
كان لحفتر السبق في الحصول على هذه المساعدات، مقابل تسهيلات ووعود وصفقات، ما خفي منها كان أعظم من المعلوم
ومن الجدير بالذكر أن كل طرف سعى، منذ حالة الانقسام السياسي، إلى الحصول على مساعدة دول إقليمية وغيرها، لضمان دعمها السياسي في المحافل الدولية، والعسكري في المحافل المحلية. وكان للجنرال المتمرّد، خليفة حفتر، السبق في الحصول على هذه المساعدات، مقابل تسهيلات ووعود وصفقات، ما خفي منها كان أعظم من المعلوم، حيث ساهمت كل من الإمارات وفرنسا ومصر في ترجيح كفته في بداية الهجوم على طرابلس، حتى كان منها قاب قوسين أو أدنى، الأمر الذي جعل حكومة الوفاق توقع تلك الاتفاقية المثيرة للجدل، والتي أدّت، فيما أدّت إليه، إلى انتشار الضباط الأتراك، وتموضع المقاتلين التابعين لهم في قواعد كثيرة، كقاعدتي معيتيقة والكلية العسكرية في مصراتة، وأخيرا قاعدة الوطية التي سيطرت عليها هذه القوات بعد طرد قوات حفتر منها. وقد قلب ذلك التموضع موازين القوى لصالح حكومة الوفاق، وساهم في هزيمة حفتر، وانسحاب قواته إلى سرت في غضون أيام معدودة. وكانت لهذه القواعد الثلاث الأفضلية النسبية على قاعدة الخرّوبة في الشرق (170 كم عن بنغازي)، والتي تولت الإمارات إنشاءها وتزويدها بكل احتياجاتها العسكرية من خلال رحلات منتظمة بينها وبين كل من قاعدة سويحان في أبوظبي ومطار الشارقة، تلك القاعدة التي ذكرت تقارير أنها نقطة وجود القوات الأجنبية المساندة لحفتر، وتحديداً الفرنسية والإماراتية. وهي في منأى عن الضباط الليبيين، حيث يستلزم دخولهم تصاريح خاصة تصدر من الرجمة (المقر الرئيسي لحفتر). وقد أكد الطيار العسكري، عامر يوسف القجم، الذي تم أسره بعد إسقاط طائرته على طرابلس، إشراف عناصر إماراتية على منظومات الدفاع الجوي والطيران المسير التي استخدمها حفتر في الهجوم على طرابلس، كما أفاد، في اعترافاته، بأن الطيران المسير يديره بالكامل ضباط إماراتيون.
أما قاعدة الجفرة (في المنطقة الوسطى) والتي تتميز بقربها من أغلب الحقول النفطية في الجنوب الليبي، وقد سيطر عليها حفتر في العام 2016، ثم خضعت للسيطرة التامة لمرتزقة فاغنر الروس، حيث تشير التقارير إلى وجود أكثر من ألفي مرتزق روسي داخلها، مدعومين بمقاتلين ليبيين، وآخرين من مرتزقة تشاد و"العدل والمساواة" من إقليم دارفور في السودان. وقد استغلت القوات الموجودة هناك وقف إطلاق النار، لتقوم بتحصين القاعدة بأكثر من 31 موقعا دفاعيا، تم إنشاؤها داخل القاعدة وفي محيطها، وبدائرة قطرها 25 كيلومترا، حسب تصريحات الناطق العسكري لحكومة الوفاق، العقيد طيار محمد قنونو.
كل طرف سعى، منذ حالة الانقسام السياسي، إلى الحصول على مساعدة دول إقليمية وغيرها
وعلى الرغم من صدمة كثيرين من هذه الأرقام التي جاءت في تقرير المبعوثة الأممية، ستيفاني ويليامز، إلا أن الأمر لم يلق أي اهتمام من المسؤولين الليبيين، على مختلف أطيافهم، ولم يصدر أي تصريح أو توضيح، أو نفي أو تأكيد، حيث يبدو أن وقتهم مخصص لآلية تقاسم السلطة، وعيونهم ترحل إلى تونس في كل يوم، تدور في أروقة الحوار، وتعانق أعضاءه، وتشتري أصواتهم (كما أفادت التقارير الواردة من هناك). أما إنشاء قاعدة عسكرية أجنبية فلم يعد يمثل تهديدا للاستقلال الوطني، أو انتقاصا من السيادة الوطنية. والشعب لا تثريب عليه، فانشغاله باحتياجاته اليومية جعله لا يملك إلا الاستنكار بصمت. أما القواعد الأجنبية، والسيادة الوطنية، والمرتزقة، فهو نوع من الترف، ليس له القدرة ولا الوقت للتفكير فيه، فأوقاته موزّعة بين طوابير المصارف، وطوابير الوقود، يكابد بين الأزمات من انقطاع الكهرباء إلى غلاء الأسعار إلى فقدان السيولة وانعدام الأمن، حتى أصبح الظفر بقارورة غاز يُنسِيهِ كل ما يتعلق بالسيادة وتلك الأحاديث عنها.
وعلى كل حال، لم يكن التدخل الأجنبي في ليبيا سرّا يحتاج لمن يفشيه، وتدخل الدول الإقليمية والدولية في المشهد الليبي لا يحتاج أي جهد استثنائي لمعرفته، سيما وأن كثيرا من هذه الأطراف لم تنكر ذلك، ودافعت عن حقها في التدخل بما يحقق مصالحها الاستراتيجية. أما مصالح الليبيين فستظل مرهونة بقدرتهم على تجاوز هذه الظروف، وتغليب مصلحة الوطن، والوصول إلى كلمة سواء، بعيدا عن المحاصصة الجهوية والقبلية، وإلا فلننتظر تقرير مندوب الأمم المتحدة الذي سيخلف ستيفاني، والذي قد تكون في جعبته أرقام وحقائق أشد إيلاماً.