هل انتصرت الثورات العربية المضادّة؟

19 ابريل 2023
+ الخط -

بعد 12 سنة على اندلاع ثورات "الربيع العربي"، أصبحت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أكبر منطقة في العالم تشهد صراعاتٍ مستمرة على السلطة، وتضم أكبر عدد من الدول الفاشلة أو تلك المهدّدة بأن تكون فاشلة. وإذا كانت شرارة "الربيع العربي" قد اندلعت بعد إضرام محمد البوعزيزي النار في جسده في تونس، فإن إضرام النار في الذات، في تعبير قاسٍ ومأساوي للاحتجاج عند من بلغ لديهم اليأس درجةً ما تحت الصفر، لم يعد يحرّك ساكناً، كما حصل أخيراً في المغرب وتونس، عندما أقدم فنانان على إضرام النار في ذواتَيهما حتى الموت، من دون أن يكون لفعلهما الاحتجاجي صدىً يذكر. فما كان قبل 12 سنة فعلاً بطولياً للتعبير عن الغضب، ويحرّك الشارع العربي، تحول إلى مجرّد حالة يأس تبعث الشفقة والأسى على أصحابها، فما الذي حدث؟

ما كان يوصف بأنه نقطة تحول تاريخي وكبير في تاريخ المنطقة، بات ينظر إليه اليوم على أنه أكبر نكسة شهدتها دوله، قلبت حياة الناس فيها رأساً على عقب، فكل الشعارات والآمال التي حملتها رياح "الربيع العربي" معها تبخرت، بل واستحالت حروباً وصراعات وانقلابات وتقتيلاً واعتقالات. أما الأوضاع الاقتصادية والظروف الاجتماعية للناس، فأصبحت أسوأ مما كانت عليه، فيما تزداد مديونيات دولٍ كثيرة ارتفاعاً، وبات بعضها عاجزاً عن سداد ديونه أو غير قادر على الحصول على ديون جديدة إذا لم تستجب للشروط المذلّة للمُقرضين الدوليين. وفي المقابل، تسود حالة من عدم الاستقرار في أكثر من دولة، وتهيمن أنظمة استبدادية وقمعية على مقاليد الحكم في أكثر من عاصمة، ويعمّ عدم اليقين عند الكثير من شعوب المنطقة التي يعاني شبابها من البطالة وانسداد الآفاق الاقتصادية أمامها.

ما بين انقلاب مصر وانتكاسة تونس، عاشت دول عربية كثيرة مآسي وحروباً وانقسامات واضطرابات وقمع وأزمات اقتصادية جعلت الناس تحنّ إلى حكم الأنظمة القديمة

كيف تحوّل ما كان يعتبر بمثابة بارقة أمل لنهوض شعوب المنطقة وفرصة لاستعادتها زمام تقرير مصيرها بيدها إلى سبب لإطالة معاناتها مع الفقر والقمع؟ ما يحدُث اليوم نتيجة لعقد ونيّف من الثورة المضادّة التي خطّطت لها وموّلتها أنظمة خليجية بتواطؤ مع فلول الأنظمة التي طردتها شعوبها، ومع قوى استبدادية وتسلطية داخل أكثر من دولة عربية. بدأت هذه الثورة المضادّة بعسكرة الثورات الشعبية في سورية وليبيا واليمن، حتى حوّلت بلدانها إلى مسارح لحروب أهلية وإقليمية وإثنية مدمّرة حرقت الأخضر واليابس، هدمت العمران وقتلت وشرّدت وهجّرت الملايين من أوطانهم. وكان أول انتصارات الثورات المضادة وأكبرها مجسّداً في انقلاب العسكر على أول نظام مدني تشهده مصر. وكانت نتيجة السنوات العشر الماضية من حكم العسكر كوارث على جميع المستويات، حوّلت البلاد إلى أكبر معتقل لسجناء الرأي في العالم، وزجّت الاقتصاد في أزمات غير مسبوقة انعكست سلباً على مستوى معيشة السكان الذين باتت معاناتهم مزدوجة مع الفقر والقمع. أما تونس التي كانت نقطة انطلاق الربيع العربي، وآخر بلدٍ صمد بوجه الثورات المضادّة، فتشهد اليوم أكبر انتكاسة تحت حكم رئيس رُفع عنه القلم، يقود البلاد نحو الهاوية.

وما بين انقلاب مصر وانتكاسة تونس، عاشت دول عربية كثيرة مآسي وحروباً وانقسامات واضطرابات وقمع وأزمات اقتصادية جعلت الناس تحنّ إلى حكم الأنظمة القديمة، بعد أن تقوّت شوكة قمع الأنظمة التي نجت من رياح الثورات الشعبية، وتمكنت أنظمة ثارت عليها شعوبها من العودة قوية إلى مقاليد الحكم رغم، أو بفضل، كل الجرائم التي ارتكبتها ضد شعوبها. وما نشهده اليوم من دعوات للتطبيع مع نظام إجرامي مثل نظام بشار الأسد الذي قتل وشرد وهجّر الملايين من أبناء الشعب السوري، عنوان لمرحلة جديدة من انتصار الثورات المضادة وإعلان لعودة النظام العربي القديم، لكنه سيكون أكثر صلابة وأشدّ قمعاً!

الأنظمة السيئة والفاسدة التي خرج المتظاهرون يطالبون برحيلها ما زالت في مناصبها، أو عادت إليها أكثر قوّة وتسلطاً

وفي المقابل، ما زال ملايين الناس الذين نزلوا إلى شوارع العواصم العربية قبل 12 سنة للمطالبة بالحرية والكرامة والعدالة على حالهم، بل وزادت أحوالهم وأحوال بلدانهم سوءاً. كذلك، إن الأنظمة السيئة والفاسدة التي خرج المتظاهرون يطالبون برحيلها ما زالت في مناصبها، أو عادت إليها أكثر قوّة وتسلطاً. وما يفسّر عدم خروج الناس، للتعبير عن غضبهم وسخطهم على أوضاعهم وتطبيعهم مع الفساد والقمع، الخوف واليأس وفقدان الثقة بكل شيء، حتى بالحلم، وإلا فإن أغلب الناس في هذه الدول تدرك أن شرعية أنظمتها وحكّامها تحطّمت منذ فترة طويلة، ويعون أن الاستياء من الظلم والفقر والقمع ما زال قائماً، وسيستمر كلما تجبّر التسلط وازداد الوضع الاقتصادي سوءاً، وسيأتي الوقت الذي سينفد فيه الصبر ويخرج المستاؤون والغاضبون مرّة أخرى، يرفعون المطالب نفسها، وقد تعلموا الكثير من دروس ثوراتهم المُجهضة، وأيضاً من الثورات المضادّة التي سرقت حلمهم، وفي هذا عبرة للمنتشين بانتصار الثورات المضادّة، لأن دوام الحال من المحال!

ما يشهده العالم من أزمات وحروب وصراعات تزعزع السلم والاستقرار العالميين في أكثر من منطقة، وتخلف آثاراً كارثية على الاقتصاد العالمي، ومن آثار مدمّرة لتغير المناخ وما يصاحبه من مخاطر الجفاف والفيضانات، ومن انتشار لأوبئة خطيرة تهدّد مستقبل البشرية على الأرض، كلها علامات تجعل أكثر الناس تفاؤلاً على يقين بأن مشكلات العالم ستزداد تعقيداً وتدفعهم إلى التوجس من أن المقبل من السنوات سيكون أسوأ، ولن يستثنى العالم العربي من هذا القدر المأساوي.

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).