ميلاد أسطورة اسمُها السنوار
بقدر ما انتابني قلق وحزن عميقان ليلة استشهاد حسن نصر الله، خاصة وأن ناساً كثيرين ممن قلوبهم مع المقاومة، قبل تأكيد استشهاده الذي تأخّر ليلة ونصف نهار، يغدون الأمل ويصلون من أجل أن لا يكون النبأ صحيحا، لأن استشهاده كان غدراً به واغتيالاً جباناً مدبّراً بتواطؤ بين إسرائيل وأميركا، وانتقاما وحشيا باستعمال أكثر من 84 طنا من المتفجّرات القوية والصواريخ العملاقة القادرة على اختراق عُمق الأرض، بقدر قلقي وحزني تلك الليلة ما أحسستُ به لحظة تسريب الأخبار الأولى لاستشهاد يحيى السنوار هو خليط من شعور عارم بالغضب والحنق والعجز والخوف على المقاومة ومستقبلها، خاصة بعد التضحيات الجسيمة التي قدّمها الشعب الفلسطيني من لحمه ودمه. ثم ما إن ظهرت أولى صور الشهيد البطل، وهو يرتدي جعبته وذراعه على صدره كمن يضغط على الزّناد، حتى تحوّلت كتلة الغضب بداخلي إلى شعورٍ بالفخر والاعتزاز، وحضرت في ذهني، كما في أذهان كثيرين، حسب ظنّي، تلقائيا صورة المناضل الأممي تشي غيفارا وهو مسجّى بجانب سلاحه. وجاءت مقاطع الفيديو التي سمح جيش الاحتلال بتسريبها ليتحوّل الشعور بالفخر إلى إحساس عظيم بقيمة اللحظة وقوة الحدث الذي سيظلّ صداه يتردّد عبر الزمن، تتداوله الأجيال رمزا للشجاعة والتضحية والبطولة.
الشعور بالفخر والزهو نفسه هو الذي تابعناه في تعليقات وردود أفعال كثيرة لمواطنين عاديين ومفكّرين وساسة وإعلاميين ومشاهير في الدول العربية، بل وحتى بعض الغربية، ومن جميع بقاع الأرض من شعوب وأمم مختلفة، فغصّت منصّات التواصل الاجتماعي بتدويناتٍ وتصريحات لمواطنين عالميين من كل الدول، ومن الدول الغربية المساندة لإسرائيل ومن أميركا، بل وحتى من إسرائيل تشيد ببطولة الرجل وشجاعته وصلابته، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة مقاوماً محارباً صامداً ومواجها قضاءه الذي اختاره عن قناعة، وطلبه، وسعى إليه بكل جهده، وهو الشهادة، وقد نالها كما تصوّرها وتنبأ بها في تصريح شهير له.
صورة السنوار المحارب الجريح وهو يلوح بعصاه، رفعت الرجل إلى مقام الأبطال التاريخيين، ووضعت اسمه إلى جانب الأبطال الذين خلدهم التاريخ ورفعهم إلى مرتبة الأسطورة، ومحت بضربة لازبٍ كل كذب الدعاية الصهيونية التي حاولت تشويه صورته وشيطنة أفعاله، فقد خلفت لحظة استشهاده تعاطفاً كبيراً معه، تردّد صداه عربيا وعالميا، أكثر مما حظي به استشهاد غيره من القادة الشهداء الذين لبوا نداء ربهم في ساحة الشرف من مجاهدي حركة حماس وحزب الله، منذ 7 أكتوبر (2023)، ليس فقط بسبب شجاعته لحظة مواجهة مصيره المحتوم، وإنما أيضاً نظرا إلى مسار الرجل وتاريخه المعجون بكثير من الألم والشقاء والمعاناة والعذاب، مند هجّرت أسرته من عسقلان بفلسطين المحتلة إلى حياة اللجوء والتشرد والجوع والفقر في مخيم خانيونس في قطاع غزة، مروراً بسجون الاحتلال وأهوالها التي قضى فيها نحو 23 سنة من زهرة العمر. وكرّس آخر عقد من حياته لمقاومة المحتل وبناء قدرات المقاومة، وختم مساره مقاتلاً جسوراً وشهيداً، وهو يحارب عدوه حتى آخر قطرة من دمه.
إرث السنوار سوف تتوارثه الأجيال المقبلة، وسوف يبقى خطه النضالي درباً يسير عليه كل مقاوم من أجل الحرية من بعده
الصورة الأخيرة للسنوار وهو ملثم بكوفيته، يرتدي جعبته العسكرية، ويلوّح بعصا خشبية في يده باتجاه المسيّرة الإسرائيلية التي كانت تصوّره، ويحزم ذراعه الأخرى بحبل أو سلك لوقف نزيف الجرح الغائر في ساعده، تختزل حياة ملحمية لرجلٍ شجاع، عاش من أجل قضيته واستشهد لأجلها مقاوماً ومتحدّيا. صورة تضع اسمه على سجل أيقونات أبطال تاريخيين، حاربوا من أجل الحرية والكرامة، واستشهدوا في ساحة الشرف، مثل المجاهدين عمر المختار في ليبيا، وعبد القادر الجزائري في الجزائر، والمقاوم موحا أوحمو الزياني في المغرب، وعزّ الدين القسام في فلسطين والمقاتل الأممي تشي غيفارا، والمناضل الكونغولي باتريس لومومبا، وآخرين أسماؤهم مسجلة في سجل البطولة والموت شرفا في ساحة القتال دفاعا عن حرية شعوبهم وكرامتها.
لحظات قبل إعدام تشي غيفارا سأله جلاده إن كان يفكر في الخلود، فردّ الثائر الأممي بأن ما يهمّه أن تُخَلَّد الثورة، لأنها التي تجسد فكره وروحه، وكان إعدامه في قمم جبال بوليفيا سيكون نسيا منسيّا، لكن الصورة التي التقطت لجثمانه المسجى، والتي شبهها بعضهم بصورة المسيح بعد صلبه، كما يعتقد المسيحيون، وكان الغرض منها التنكيل به ميتا، حوّلته إلى أيقونة، سيدخل عبرها إلى التاريخ من بابه الواسع. كذلك، ستبقى آخر صور الشهيد المغوار السنوار في لحظاته الأخيرة وهو يقاوم حتى آخر نفس حاضرة في الوعي الجماعي لأجيالٍ مقبلة، محاربا من أجل الحرية. لم يهرب ولم يخف ولم يرتعب أو يهن، أقبل على الشهادة مقبلاً لا مُدبراً، هي صور انتصار وتحدٍّ لمقاتل شجاع حارب حتى النفس الأخير من حياته وذراعه شبه مقطوعة، وكأنه يحاكي قصيدة الشاعر الكبير محمود درويش الذي تنبأ بهذه الصورة الملحمية في مقطع من قصيدته التي يخاطب فيها السنوار من وراء غيابه الأبدي "حاصر حصارك .. لا مفرُ / سقطت ذراعك فالتقطها / واضرِبْ عدوك.. لا مفرّ ...
رحل السنوار عن دنيانا الفانية، لكن إرثه سوف تتوارثه الأجيال المقبلة، وسوف يبقى خطه النضالي درباً يسير عليه كل مقاوم من أجل الحرية من بعده، أما فكره وعبقريته في تحدّي عدوّه ومواجهته فسيبقى مرجعا ونموذجا يُدرس ويُحتذى به. كان السنوار تجسيداً حيا لعبقرية المقاومة الفلسطينية. وحوّلته لحظة استشهاده البطولية إلى الرمز المثالي للأبطال الذين سيأتون من بعده يحملون فكره وقضيته التي ما زالت حية معنا، وسيكون أجمل نعي وتكريم وتخليد للسنوار ورفاقه من المقاومين، من استشهدوا منهم ومن لا يزالون يقبضون على الزناد دفاعا عن الشرف والعرض والأرض، هو صون فكر المقاومة، وحمل قضيتها من بعده حتى النصر الذي سوف يأتي ذات يوم، لأن الظلم والعدوان مهما طال فهو إلى زوال، أما الحقّ فلا بد أن ينتصر ولو بعد حين.