هل كانت إسرائيل ستطغى لو نجح الربيع العربي؟
هل كانت حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين، وحالياً ضد لبنان، ستوجد، وليس فقط تستمر سنة ونيفاً، وتؤدي إلى تدمير غزة ولبنان وقتل وجرح أكثر من 170 ألف فلسطيني ولبناني، لو أن ثورات الربيع العربي نجحت، وقطعت الطريق على الثورات المضادّة التي وأدت انتفاضة الشعوب العربية، وعسكرت احتجاجاتها السلمية، وحولت ربيعها إلى حروب أهلية مدمّرة؟ لا يتعلّق الأمر بممارسة نوع من التخييل السياسي، وإنما بات هذا السؤال يُطرح بقوة لإعادة قراءة التاريخ القريب، بناء على التطورات الخطيرة التي بدأت تأخذها تداعيات العدوان الإسرائيلي وأبعادها المستقبلية، والخبايا التي بدأت تتكشف أمامنا عن التواطؤات الغربية والعربية في دعم الكيان الصهيوني، وهو ما سوف تتضح صورته أكثر مع مرور الوقت.
لقد أسقطت حرب الإبادة الصهيونية ضد الشعبين، الفلسطيني واللبناني، أقنعةً كثيرة، وكشفت عن أشياء كثيرة كانت مستترة، ورفعت التهمة المغرضة التي ألصقت بثورات الربيع العربي، عندما رماها بعضهم بأنها صنيعة الغرب الذي أوجدها ومولها وحرّكها بغرض بعث الفوضى والخراب في المنطقة العربية للسيطرة عليها، كما لو أن هذه المنطقة وأنظمتها المستبدّة، كانت تحارب الغرب، وتكيد له المكائد وتحيك له المؤامرات؟ فكل الأنظمة التي ثارت ضدها شعوبها عام 2011 كانت موالية للغرب تابعة له خاضعة لأوامره، متواطئة معه ضد شعوبها وضد كل شعوب العالم ودوله المعادية له، من تونس بن علي إلى مصر حسني مبارك وانتهاء بعلي صالح ومعمّر القذافي وبشار الأسد على التوالي في اليمن وليبيا وسورية، أما الأنظمة الوراثية من المحيط إلى الخليج فكانت وما زالت محميات أميركية وغربية، والعراق الذي شكل ذات يوم عمقاً استراتيجياً للدفاع عن استقلالية القرار العربي، كان حينها ممزّقاً تنهشه مليشيات الإرهاب التي فرخها الاحتلال الأميركي للبلد.
اليوم، مع المسافة الزمنية الكافية التي باتت تفصلنا عن عام 2011، يمكن القول إن الأنظمة الغربية الإمبريالية استغلت فرصة الربيع العربي الذي خرجت ثوراته تلقائياً في تونس ومصر قبل أن تنتشر في باقي البلدان العربية، وتعاونت مع أنظمة عربية موالية لها، أو هي من تحميها، لتصفية حساباتها القديمة مع الأنظمة التي لم تكن تثق بها مثل النظام السوري ونظام العقيد معمر القذافي في ليبيا، والذي بالرغم من تسليمه أسلحته الكيماوية لأميركا، وتقديمه كل فروض الولاء والطاعة للغرب، لم يسلم من غدرهم به عندما رأوا الفرصة سانحة، وبذلك تحققت للغرب والأنظمة الحليفة له ثلاثة أهداف أساسية: التخلص من الأنظمة التي لم يكونوا يثقون بها، أو إضعافها. والقضاء على التيارات الشعبية القوية التي كانوا يخافون من وصولها إلى السلطة، خصوصاً التيار الإسلامي. وتشويه الصورة "الشاعرية" لثورات الربيع العربي، كما ظهرت في شوارع تونس والقاهرة وصنعاء واليمامة وميادينها، وتحويلها إلى شبح مخيف يهدد الدول وشعوبها بالحروب والدمار والخراب.
ما تنفذه إسرائيل اليوم في غزّة ولبنان من خراب ودمار سيأتي على المنطقة العربية كلها، للتأسيس للعهد الصهيوني الذي بدأنا نعيش بوادره في أكثر من دولة عربية!
نحن ننسى أن صفقة تبادل الأسرى بين "حماس" والاحتلال الإسرائيلي أو "صفقة وفاء الأحرار"، كما يسمّيها الفلسطينيون، والتي أبرمت في عهد نتنياهو وبموجبها تحرر 1027 أسيراً فلسطينياً من بينهم يحيى السنوار، جرت في عز ثورات الربيع العربي، يوم 11 أكتوبر/ تشرين الثاني 2011، أي بعد شهر من اقتحام المتظاهرين المصريين السفارة الإسرائيلية في القاهرة في 9 سبتمبر/ أيلول 2011، وإنزالهم العلم الإسرائيلي، ورفع العلم المصري محله، ومطالبتهم بإلغاء معاهدة التطبيع وقطع كل العلاقات مع إسرائيل. كما ينسى كثيرون موقف أول رئيس مصري مدني منتخب، الشهيد محمد مرسي، عندما شنت إسرائيل عدواناً على غزّة عام 2012 ، فجاء ردّه حازماً محذراً متوعداً ومهدداً إسرائيل، وأرسل رئيس وزرائه، آنذاك، هشام قنديل إلى غزّة على رأس وفد مصري، وأمر بفتح معبر رفح بشكل دائم أمام الفلسطينيين، فما كان من الإسرائيليين إلا أن أوقفوا عدوانهم، بعد أسبوعين من بدئه، ووقعوا اتفاقاً يتعهدون فيه بوقف "الاغتيالات والتوغلات الإسرائيلية" وتسهيل تنقلات الفلسطينيين!
لقد أسقطت حرب الإبادة الصهيونية ضد الشعبين، الفلسطيني واللبناني، أقنعةً كثيرة، وكشفت عن أشياء كثيرة كانت مستترة
ما أملى صفقة "وعد الأحرار"، وأجبر إسرائيل على وقف عدوانها على غزة، وتقديم اعتِـذار رسمي لمصر عن قتل خمسة جنود مصريين على خطّ الحدود بين البلديْـن، في سابقة لم تحدُث، إسرائيلياً، من قبل، هو الخوف الإسرائيلي من تداعِـيات "الربيع العربي"، في المنطقة وفي مصر خاصة، وتحول الرأي العام العربي إلى عُـنصر مؤثر في معادلة العلاقات العربية الإسرائيلية، ما دفع إسرائيل والغرب إلى ضرورة الأخذ بعين الاعتبار تلك التحولات الكبرى في المنطقة آنذاك، ووضعها في صميم حساباتهم السياسية والاستراتيجية، وبداية التحرك لمواجهة الخطر الذي كان يهدّد وجودهم ومصالحهم، والتركيز على ثغرات تلك الثورات للتسرب إلى داخلها لإعادة ضبط المنطقة على بندول الساعة الزمنية الإسرائيلية. فما كان يخشاه الإسرائيليون، والغرب عموماً، إبان تلك الثورات، هو تحالف الإسلاميين مع القوى الديمقراطية في الشارع ومع الجيش في بلدانهم، وهكذا جرى اللجوء إلى كل أساليب الدعاية المضادة لتشويه (وشيطنة) الربيع العربي والقوى التي كانت تقوده، وفي مقدّمتهم الإسلاميون في مصر وإثارة الصراع بينهم وبين القوى الأخرى، وتشجيع الجيش الذي يتلقى تمويله من أميركا، للاستيلاء على السلطة باسم الحفاظ على أمن البلد واستقراره ووحدته.
أليس من غريب المصادفات، اليوم، أن القنوات الفضائية، والصحف والمواقع، والإعلاميين والسياسيين والمثقفين، الذين حاربوا الربيع العربي، وألبسوه كل التهم الزائفة والكاذبة هم الذين يهاجمون اليوم المقاومتين، الفلسطينية واللبنانية، ويحملونهما مسؤولية جرائم الحرب التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزّة ولبنان؟ أليست الأنظمة التي قادت الثورة المضادة، هي نفسها التي بادرت إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني؟ أليست هذه الأنظمة هي نفسها التي كشف الصحافي الأميركي، بوب وورد، في كتابه الصادر حديثاً تحت عنوان "الحرب"، عن تواطئها مع إسرائيل وأميركا في العدوان الحالي على غزّة، وتحريضها الاسرائيليين للقضاء على "حماس"؟ من سيقرأ هذا الكتاب سيُصدم من حجم المؤامرة وسيدرك لماذا لم يسمحوا لثورات الربيع العربي بالنجاح وحوّلوها إلى خراب ودمار، لكن ما تنفذه إسرائيل اليوم في غزّة ولبنان من خراب ودمار سوف يأتي على المنطقة العربية كلها، للتأسيس للعهد الصهيوني الذي بدأنا نعيش بوادره في أكثر من دولة عربية!