هذا الفشل في ليبيا
لم يُفاجأ كثيرون من الليبيين بالإخفاق والفشل الذي صاحب اجتماعات لجنة الـ75 في جنيف. فلم يكن الفشل الأول، ومؤكّد أن إخفاقات كثيرة ستليه، طالما تشبث متصدّرو المشهد السياسي في البلاد بآرائهم وقناعاتهم التي تخدم مصالحهم الضيقة، من دون الرغبة في التنازل عنها، بما يضمن الاتفاق على كلمة سواء قد تُنهي سنواتٍ من معاناة الليبيين، أو على الأقل للبدء بخطوةٍ في الاتجاه المأمول. وقد اعتاد الليبيون هذه الإخفاقات، وهذه النتائج التي ارتبطت بحلقة مفاوضاتٍ لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد، من دون تغيير يُذكر، باستثناء تنوع أماكن هذه المفاوضات بين دول وعواصم عربية وغربية، وأرقام تشير إلى عدد المفاوضات التي طُويت، فنجد برلين 1 وبرلين 2 وكذلك جنيف 1 وجنيف 2 وغيرها.
ما زالت عربة المفاوضات بين الليبيين تتنقل غرباً وشرقاً، حاملة على متنها ممثلين عن الشعب الذي لم يساهم في اختيارهم، بل ولا يعرف الآلية التي اختيروا بها ليمثلوه، واعتبرها من ضمن أمور يجب ألا يسأل عنها. وقد تبادل مندوبو الأمم المتحدة عملية الاختيار، ابتداءً ببرناردينو ليون الذي أفضى اختياره بعد مخاض عسير إلى ولادة مجلس رئاسي بتسعة رؤوس، لم يكتب إلا لأربعة منها البقاء إلى آخر مشوار حياتها، فيما آثر الآخرون الاستقالة أو الجلوس على مقاعد المتفرجين. ووصلت عملية اختيار أخرى قادتها مبعوثة الأمم المتحدة بالإنابة، ستيفاني وليامز إلى اختيار 75 عضواً، قالت إنهم يمثلون أطياف المجتمع الليبي السياسية والاجتماعية، وسيقودون حواراً ليبياً - ليبياً شاملاً، يعقد بناءً على مخرجات مؤتمر برلين الذي صدّق عليه مجلس الأمن (حسب تصريحاتها). وما بين برناردينو وستيفاني رحلة شاقة دفع ثمنها الليبيون، وتبادل على مساعدتهم مبعوثون من الأمم المتحدة، منهم من سبّب له الوضع الليبي تأزماً في حالته الصحية، فآثر الاستقالة، ومنهم من ساهم (بقصد أو دونه) في زيادة تأزم المشهد الليبي وتعقيده، ومنهم من اعتبر هذه المهمة مجرد وظيفة تضيف الكثير إلى رصيده المادي وتغني سيرته الذاتية.
سعت الأطراف الممثلة لحفتر إلى تمرير مقترح القاعدة الدستورية المؤقتة، آلية للانتخابات، بما يسمح له من الانخراط في الانتخابات الرئاسية، من دون أن يضطر إلى الاستقالة من الجيش
غادرت ستيفاني موقعها، وتركت لليبيين 75 عضواً، اتفقوا أمامها خوفاً أو طمعاً، وتناسوا خلافاتهم، وظهروا بمظهر الوطني الذي يتنازل عن كل شي مقابل الوطن، وأكدوا في كلماتهم أمامها أنه ليس هناك من بد من الاتفاق. وبالفعل، انتهت اجتماعاتهم إلى خريطة طريق، أنتجت، في ما أنتجت، حكومة وطنية موحدة لفترة انتقالية، على أن تمهد هذه الحكومة لانتخابات رئاسية وبرلمانية في 24 ديسمبر/ كانون الأول المقبل. وما إن اختفت ستيفاني وغابت عن اجتماع جنيف، حتى اختفت معها تلك الأقنعة وتلك الوعود، لينطبق عليهم المثل الليبي "ولت حليمة لعادتها القديمة"، ليتفنن كل منهم في البحث عن نقاط الاختلاف. ورأى الليبيون كيف أن الـ75 قلوبهم شتّى، وكيف أنهم عجزوا عن إيجاد نقطة اتفاق بينهم، وتشبث كل منهم بما حُمّل به من خارج القاعة، حيث يبدو أن اختلاف الأطراف المتنافسة والفاعلة في المشهد الليبي قد ألقى ظلاله على الاجتماعات. واتضح أن المجتمعين في جنيف يمثلون أطرافاً متصارعة وغير مستعدة للتنازل، وأن هدف كل تيار داخل تلك الاجتماعات تحقيق رغبات هذه الأطراف التي يمثلها، حتى وإنْ أدّى ذلك إلى تعارضها مع الهدف الرئيسي للاجتماع. وهذا ما حدث، فالأطراف الممثلة لخليفة حفتر، على سبيل المثال، سعت إلى تمرير مقترح القاعدة الدستورية المؤقتة، آلية للانتخابات، بما يسمح له من الانخراط في الانتخابات الرئاسية، من دون أن يضطر إلى الاستقالة من الجيش، فيما سعى تيار آخر إلى وضع شروطٍ تمنع العسكريين وحملة الجنسيات الأجنبية من الترشّح، إضافة إلى التلويح بمنع المتهمين في جرائم حرب أيضاً. أي إن خليفة حفتر هو محور الخلاف الرئيسي بين مختلف التيارات داخل هذه اللجنة. وهناك أوجه اختلاف أخرى، ولكنها ثانوية، ويمكن الاتفاق بشأنها.
انتهت الأيام الثلاثة، وكذلك اليوم الإضافي الذي منحته بعثة الأمم المتحدة، من دون أن تكون للمجهودات التي بذلت طوال هذه الأيام القدرة على تقريب وجهات النظر، وتشبث كل طرف باقتراحاته. ولم تكن هناك نية حقيقية لتجاوز هذه الخلافات، الأمر الذي جعل منسقة الأمم المتحدة، ريزيدون زينيغيا، تعلن رسمياً فشل هذه الاجتماعات. قالت: "بالتأكيد، سيصاب الليبيون بخيبة الأمل، كانوا يتطلعون إلى حصول الفرصة في ممارسة حقوقهم الديمقراطية من طريق الإدلاء بأصواتهم في انتخابات رئاسية وبرلمانية في 24 ديسمير/ كانون الأول. لم تكن خيبة الأمل الأولى والوحيدة، ولكنها أضيفت إلى رصيد معتبر من أخواتها التي سبقتها، لتساهم في معاناة هذا الشعب، وتبعد عنه أمل الخروج من هذا النفق.
السيناريوهات المتشائمة لا تزال مطروحةً بقوة، في حال استمرار عجز الأمم المتحدة عن معالجة الانسداد
لم تعكس الخلافات التي صاحبت انعقاد هذه الجلسات الانقسامات السياسية والقبلية والجهوية فقط، بل كان للتدخلات الإقليمية والدولية دور بارز في معظم نقاط الاختلاف، حيث سعت هذه الأطراف إلى تأييد التيار الذي ترى أنه سيخدم مصالحها الاستراتيجية، ولا سيما أنها تدرك جيداً أهمية هذه الانتخابات، حيث ستُمنح شريعة مدعومة من المجتمع الدولي والأمم المتحدة، وإن غياب تأثير هذه الأطراف من خلال وكلائها في الداخل، وخصوصاً في لجنة الـ75، سيجعلها خارج اللعبة أواخر العام الحالي. وبالتالي، أصبح تدخل هذه الدول في الشأن الليبي، وفي مختلف جلسات الحوار، أمراً لا يحتاج إلى جهد خاص لمعرفته، حتى وصل إلى الدرجة الذي أصبحت فيه موافقة هذه الدول أمراً لا مناص منه في نجاح أي اجتماع.
أما الشارع الليبي، فقد تابع دون اهتمام جلسات مَن اختيروا لتمثيله، واستمع إلى كلمات ومناكفات ذكّرته بأن قعر الانهيار لا يزال عميقاً، وأن السيناريوهات المتشائمة لا تزال مطروحةً بقوة، في حال استمرار عجز الأمم المتحدة عن معالجة الانسداد الذي وصل إليه الحوار. وفي الوقت نفسه، اهتم ليبيون كثيرون بمتابعة تغريدات السفراء الغربيين المعتمدين في طرابلس، وخصوصاً السفير الأميركي، لأن الشعب يدرك تماماً أن هؤلاء السفراء وحكوماتهم هم من يملكون القرار في ليبيا، وأن الشخصيات الجدلية التي ساقتها أقدار الأمم المتحدة لتقرير مصيره، ما هي إلا "كومبارس" اختير لتكتمل فصول المسرحية، وأنهم دون شخصية دولية مثل ستيفاني، ودون تغريدة من سفير الولايات المتحدة، ودون تهديدات بعقوباتٍ يمكن أن تمسّ حساباتهم المالية الخارجية، لا يمكنهم أن يفكروا في الوصول إلى حل. فهذا الوضع يعتبر مثالياً لممارسة سطوتهم وسلطتهم على شعبٍ شرّدته الحروب، وأنهكته المصاعب الاقتصادية والصحية، حتى أصبح الخروج منها كحلم لن يحققه له متصدّرو المشهد.