12 أكتوبر 2024
نهج إسرائيلي في الغوطة
تحتاج إلى أرطالٍ من بلادة المشاعر، عندما تطالع أن مستشفياتٍ وعياداتٍ في الغوطة الشرقية في ريف دمشق تتعرّض للقصف مرتين وأكثر، من النظام والطيران الروسي، فضربة واحدةٌ لا تكفي للإجهاز على أيٍّ من هذه المنشآت الطبية، يلزم أن تستهدفها الصواريخ الارتجاجية الروسية مراتٍ، لضمان خروجها من الخدمة تماما، كما تم النجاح السديد في هذا بشأن مستشفى عربين. وعندما تقرأ أن مراكز للولادة تعرّضت لاستهداف عسكري نشط، فإن أي كلامٍ في السياسة، بعد إصدار مجلس الأمن الدولي قراره الليلة قبل الماضية البدء بهدنةٍ إنسانية مدة شهر (في كل سورية!) يصبح ترفا ذهنيا، وتمرينا في الكلام الساكت، بتعبير إخوتنا السودانيين. ذلك أن قوة الاحتلال، الممثلة بالنظام الذي يقبض على السلطة في سورية، لا تجد نفسها مضطرةً للامتثال لذلك المطلب الإنساني (أو لعله الإنسانوي، بلغةٍ متثاقفة)، والذي جهر به قرار مجلس الأمن، وألحّ عليه مسؤولون في الإغاثة في الأمم المتحدة، فالحملات العسكرية التي نشط فيها النظام، وبإسنادٍ روسي جوي، وتدعيمٍ مليشياوي إيراني، في غير محافظةٍ ومدينةٍ وبلدةٍ في عموم سورية، مضت في تفاصيلها، من دون اكتراثٍ بالضمائر الرهيفة لدى أولئك الموظفين المختصين في الأمم المتحدة. قُتل، في سبع سنوات، آلاف الناس، ودمّرت مدارس ومستشفيات ومساجد وكنائس وأفران خبز، ثم لم تنطبق السماء على الأرض (مع الاعتذار من نيكي هيلي)، وإنما تواصلت بياناتٌ وقراراتٌ ونداءاتٌ في مجلس الأمن، وفي اجتماعاتٍ في عواصم عديدة.
كان مفهوم مناطق خفض التصعيد احتيالا لغويًا غير تقليدي، ابتدعه الروس، ثم نجحوا في قصة الضامنين البائسة، فأشغلونا، نحن المعلقين في الصحافة، بتحليلاتٍ سياسيةٍ في أمر هؤلاء الضامنين (أهمهم روسيا وإيران)، وفي الاستثناءات التي لا يشملها "خفض التصعيد"، من قبيل الإرهابيين في جبهة النصرة و"داعش". وبينما نحن الآن في أثناء محدلة القتل والتهديم الكارثية في الغوطة الشرقية، نتابع جلسات مجلس الأمن التي عقدت بطلب روسي (!)، ثم التصويت على مشروع القرار الكويتي السويدي. وبينما المشاهد المروّعة من الغوطة على الشاشات لا تتوقف، يكاد يفلت من التفاصيل المتواترة أن اتفاقا خاصا بوقف إطلاق النار في الغوطة (وريف حمص) تم التوقيع عليه في القاهرة، في يوليو/ تموز الماضي، برعايةٍ مصرية (وضمانة روسية أيضا!). ولا مجاملة لسامح شكري في القول هنا إن بنود ذلك الاتفاق أفضل مما نص عليه القرار الجديد لمجلس الأمن، فهو يؤكّد على وقفٍ كاملٍ للقتال وإطلاق النار من جميع الأطراف، وعلى عدم دخول أي قواتٍ عسكريةٍ للنظام، أو قوات حليفة له، الغوطة.
ولكن، من قال إن النصوص أوْلى مما في النفوس؟ .. استرشادا بالنهج الإسرائيلي الذي يواظب عليه، اعتبر نظام دمشق اتفاق القاهرة مجرّد مجاملةٍ روسيةٍ (وسعودية) لنظام عبد الفتاح السيسي، من أجل أن يشعر بأن له، كما غيرُه، قرصٌ في العرس السوري الدامي، أما ما انكتب في الاتفاقية فتولّت أمرَه القذائف والصواريخ التي استأنفت مهماتها، في اليوم التالي لحفل التوقيع في العاصمة المصرية، وبعد ساعاتٍ من غبطة أحمد الجربا الفائضة به. تماما كما فعلت الصواريخ والقذائف التي اشتدّت، أمس في حرستا وغيرها، مع مقذوفاتٍ مضاعفةٍ بالنابالم الحارق على أحياء سكنية كيفما اتفق في شرقي الغوطة عموما. وذلك كله لتأكيد حزمة بديهياتٍ، أولها أنه لا يجوز أن يتدخل أحدٌ بشأن الحرب على الإرهاب، الموظفون الإنسانيون في جنيف في الأمم المتحدة وغيرهم، وعلى القنوات التلفزيونية المُغرضة أن تعرف أنه لا مطرح للعواطف، في غضون هذه الحرب. وثانيها أن النظام في سورية مبدئيٌّ في ثباته على نهجه الإسرائيلي الذي لا يتقادم، فعندما أراد، في مثل هذه الأيام قبل 36 عاما، في حماه، أن يُجهز على ثلاثمئة من "الإخوان المسلمين"، قتل نحو ثلاثين ألف مدني (الأرقام كما العادة متأرجحة)، ودمّر حواضر ومساجد ومدارس وكنائس في غضون المذبحة المشهورة. ولذلك، من عاديّ الأمور، في سبيل أن يقضي على مسلحين معدودين، يراهم إرهابيين، أن يقضى على آلافٍ في مهاجعهم ومنازلهم ومستشفياتهم. وثالث البديهيات أن لمن يريد أن يُشهر عواطفه تجاه بشرٍ يُنتشلون من بين الحطام فليفعل، أما بشأن النابالم والقذائف والصواريخ فما تصنعه متروكٌ للنابالم والقذائف والصواريخ.