في استعادة 7 أكتوبر
ألححْنا، في مطالعاتٍ وفيرة، على أن العملية الفلسطينية العسكرية، الفريدة، فجر 7 أكتوبر (2023)، من نواتج العُسف الغليظ الذي يرتكبه المحتل الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني في غزّة والقدس وغيرهما. قياساً، هل لنا أن نقول إن حرب الإبادة، المدفوعة بنزوع ثأري غرائزي، والتي تواصلها إسرائيل في القطاع المحاصر، هي ناتج تلك الضربة النوعية؟ في منطقٍ ذهنيٍّ صرف، تجريديٍّ بارد، يُردّ على السؤال بالإيجاب، غير أن أرطالاً من الحذر شديدة الوجوب هنا، يسوّغها أن تمادي العدو في توحّش انتقامه ذهب إلى عقابٍ جماعيٍّ بلا سقوف، وإلى الإجهاز على كل شروط الحياة للغزّيين المنكوبين، ما يعني أن حدث 7 أكتوبر ليس تماماً هو سبب ما نرى، بل هو الشيطان الذي يقعد في المخّ الإسرائيلي، وطبيعةٌ فاشيّةٌ لا يرى صنّاع القرارين، العسكري والسياسي، في دولة الاحتلال، داعياً إلى إخفائها. وبذلك، إن صحّ أنّ فصلاً، إجرائياً، يلزم أن يكون، بين الجرح (الوجودي حقّاً) الذي أحدثته الواقعة الاستثنائية في كيان إسرائيل ذاتها وحرب التمويت التي يستعصي على أيٍّ منّا أن "يخمّن" موعداً مرجّحاً لتوقفها، فإنه فصلٌ لن يغيّب التعقيد العويص في الحالة كلها، فالذي رجَّته عملية طوفان الأقصى في إسرائيل، مجتمعاً وجيشاً ومؤسّسات، باهظٌ على دولةٍ امتلكت فائضاً من القوة لا يضطرّها، على ما ترى نفسها، إلى أن تحترس من خصم فلسطيني مستضعف.
يفيدنا عزمي بشارة في كتابه "الطوفان... الحرب على فلسطين في غزة" (2024)، بأن ما أثار الدولة العاتية إلى الحدّ الذي جعل "ردّها" على ما رأينا، ليس عدد المدنيين الإسرائيليين الذين قُتلو أو تأذَّوا في تلك الصبيحة، بل ثلاثة أمور: نقل طرف عربي (فلسطيني) الحرب إلى داخل حدود 1948، وهذا ما لم يحصل منذ النكبة. المفاجأة في جرأة المقاتلين الفلسطينيين وقدراتهم، ومن هذه الناحية، دخول المعسكرات وقتل الجنود أبلغ أثراً وأكثر تسبّباً في الصدمة من قتل المدنيين في بيوتهم. الخشية من انكشاف مكامن الضعف، وإصابة هيبة الردع بانتكاسة نتيجة لهذا الهجوم... وفي ظنّ صاحب هذه السطور، احتاجت إسرائيل إلى الإفراط في تلك المبالغات التي راحت فيها تُشابه "7 أكتوبر" بـ "11 سبتمبر"، وبشيءٍ من "الهولوكست"، لإقناع العالم بفداحة فعلٍ لم تقدر على تطويق مفاجأته، سيّما وأن الفاعل قطع رؤوس أطفال واغتصب نساءً في الأثناء، على ما ظلّت تروّج الدعائيات الكاذبة، وما زالت رؤوس الكيان تردّد في منابر أميركية وأممية ودولية، على الرغم من انكشاف الدجل في هذا الكلام.
كانت عملية كتائب القسّام (ومن معها) حربيةً تماماً، تتوافر على كل عناصر الإعجاز، من مقاتلين قلبوا "نظام الأشياء"، بتعبير عزمي بشارة الذي أوضح أن هذا الانقلاب مثّلته صورة الفلسطيني الذي يجرّ الجندي الإسرائيلي أو يسحبه من الدبابة. لقد كشف المقاتل الفلسطيني في غزّة، في صباح مثل هذا اليوم العام الماضي، عن قدراتٍ استثنائية، وهو المحاصر منذ 17 عاماً، وقد فوجئ باتّساع انتصاره إلى مدى ينكشف فيه العدو عاجزاً، وخائفاً، فأعقب حاله هذا بسلوكٍ متوحّش، شديد البدائية، قبليّ، الأمر الذي لم تكن "حماس" تُدركه أو تتوقّعه، بل إن خبراء عرباً (وأجانب) في إسرائيل وشؤونها صاروا يشعرون بقصورٍ في فهمهم دولة العدوان هاته، ومن ذلك غيرُ صحيحٍ ما ظلّ يقال ويتكرّر عن قيمة الإنسان الإسرائيلي في الوعي الحاكم، فما بيّنته ألاعيب حكومة نتنياهو وأجهزة المخابرات والاستخبارات في مفاوضات الصفقة التي لم تتم، وكان يُفترض بموجبها إطلاق سراح أكثر من مائة محتجز مدني وعسكري إسرائيلي لدى المقاومة، أن القيمة هذه تساوي صفراً في مقابل أولوية هيبة الدولة أمام تنظيمٍ مسلح اسمُه "حماس". وبين اتساع المظاهرات الحاشدة التي طالبت بصكّ الصفقة أن حرمان يحيى السنوار من البهجة أَوْلى من أي اعتبار لديمقراطية أو رأي عام.
لم يستطع الفلسطيني، وكذا العربي، أن يكتم غبطته الشاسعة بالذي أوقعته معجزة 7 أكتوبر بالعدو، وإنْ يحتشد فيه الغيظ من الذي أعمله جيش هذا العدو بناس غزّة وعُمرانها طوال عام. أمّا السؤال الذي يحقّ لأيٍّ كان أن يجهر به، ما إذا كانت "حماس" مطالبةٌ بتقدير العواقب وفداحتها للذي صنعته في ذلك اليوم الفريد في مجرى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فواحدٌ من أجوبةٍ ممكنةٍ أنها إذا كانت مطالبةً بهذا، فلن يتأتّى من الإقامة في جدلٍ كهذا أيّ مردودٍ لصالح الشعب المكلوم في غزّة. وإجابة أخرى أن أيّ حركة مقاومة في أيّ أرضٍ محتلة لو أشغلت نفسها بحسابات الأكلاف والخسارات والأرباح في الذي تصنعُه ستقعُد عن أي فعل.