عندما يستنجد محمود عبّاس بمسعد بولص
لولاه، تقريرٌ في "نيويورك تايمز"، نشرته السبت الماضي، لما صار في علمنا أن الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس التقى في نيويورك، على هامش مشاركته في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، في سبتمبر/ أيلول الماضي، والد صهر دونالد ترامب، المتزوّج من ابنته تيفاني، رجل الأعمال الأميركي اللبناني الأصل مسعد بولص. ويُدرِج التقرير هذا اللقاء ضمن محاولات عبّاس "التصالح" مع ترامب الذي كانت عودتُه رئيساً للولايات المتحدة غير مستبعَدة. ومن هذه المحاولات تهنئة عبّاس ترامب بنجاته من محاولة الاغتيال في يوليو/ تموز الماضي، في رسالةٍ ساهم مسعد بولص (ورجل الأعمال الأميركي الفلسطيني بشارة بحبح) في إيصالها إلى صاحبها الذي اعتبرها "لطيفةً للغاية". وبعد الانتخابات، لم يكتف عبّاس برسالة تهنئةٍ تقليدية، بل تحدّث مع الرئيس العائد هاتفياً، مهنئاً أيضاً. ولم تُخف وكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية خبريْ المكالمة والرسالة، على غير ما فعلت بشأن اللقاء مع مسعد بولص، وبخصوص تلك البرقية التي بدا ترامب مبتهجاً بها، عندما نشرها على منصّته "تروث".
حسناً يصنع رئيس دولة فلسطين عندما يلعب مقداراً من السياسة والعلاقات العامة، بل وأن يعمل على "ترميم" علاقاته مع ترامب، وهو الذي كان قد أعطى تعليماتِه إلى عموم المسؤولين الفلسطينيين بمنع أي تواصلٍ مع الإدارة الأميركية السابقة برئاسة ترامب، في غضون إشهار الأخير اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل، وإعلانه "صفقة القرن" إيّاها التي أخذ عبّاس موقفاً رافضاً كل شيء فيها بشدّة. ونُشر، في تلك الأثناء، أن عبّاس رفض في يناير/ كانون الثاني 2020 تلقّي مكالمةٍ هاتفيةٍ من ترامب نفسه.
ليست القضية هنا، إنما في ما إذا كان عبّاس يعتنق أن شغل العلاقات العامّة هذا هو السياسة، وأنه أداته الوحيدة في محاولة جرّ ترامب وإدارته المرتقبة إلى شيءٍ من التوازن في العلاقات الأميركية مع دولة الاحتلال ومع الفلسطينيين. ولعلّه طريفٌ أن نقرأ أن مسعد بولص قال لـ"نيويورك تايمز" إنه لم يُبلغ ترامب بلقائه مع عبّاس، لا قبلَه ولا بعدَه، وبأن اللقاء كان "شخصياً محضاً". وهنا يطرأ سؤالٌ عمّن يكون هذا الشخصيّ بين الرجلين. أما البالغ الجدّية هنا فهو السؤال عمّ سيصنع محمود عبّاس عندما يُعلن نتنياهو ضمّ الضفة الغربية إلى دولة الاحتلال، ثم يُبارك هذا البيت الابيض، حيث الرئيس اسمُه دونالد ترامب؟ ومسوّغ السؤال أن رئيس حكومة إسرائيل قال إن هذا ما سيفعله في الأيام الأولى لرئاسة ترامب المنتظرة. وذلك من دون إغفال أن من رشّحه ترامب سفيراً في إسرائيل، مايك هاكابي، وهو عنصري شديد الولع بالدولة الصهيونية، قال، بغير كثيرٍ من المواربة، إنه لا يرى شعباً اسمُه الشعب الفلسطيني، ومن الممكن أن تدعم الولايات المتحدة هذا الضمّ.
تذهب إسرائيل إلى حربٍ على الوجود الفلسطيني نفسه، ليس فقط على عناوينه وتشكيلاته السياسية، سلطةً وطنيةً أو منظمّة تحرير أو فصائل أو "حماس" أو غيرها، وإنما على حقوقه الدنيا في البقاء شعباً في أرضٍ له، سيادتُه عليها وإدارتُه شؤونه فيها مستحقّان له. لسنا أمام يمينٍ إسرائيليٍّ ينتهج الاستيطان سياسةً معلنة، وإنما أمام فاشيةٍ مُشهرة، أعملت في غزّة كل صنوف التوحّش والتطهير والإبادة، وقوّضت إمكانات الحياة الطبيعية للبشر. ولم تردع "جيش الدفاع" أطنان المناشدات والمطالبات والتنديدات والبيانات، ومعها المظاهرات، والقرارات في مجلس الأمن وغيره، لم تردعْه عن أي جريمة حربٍ خطّط لاقترافها ثم اقترفها.
تكتمل في هذه الأيام 20 عاماً على تولّي محمود عبّاس رئاسته دولة فلسطين. لم يدلّل، ولو مرّة (وإنْ أثنى عليه صاحب هذه الكلمات إبّان "صفقة القرن") إنه صاحب مواهب سياسيةٍ عالية، ولا أن لديه شيئاً من الخيال السياسي، ولا أنه يُحسن مخاطبة العالم بشأن عدالة القضية الفلسطينية (كلماته في الأمم المتحدة مُخجلة غالباً)، ولا أنه على أهليّةٍ قياديةٍ لشعبٍ يًغالب محناً كبرى، ويتعرّض لأشنع صنوف المحو والاحتلال والاستهداف. وجاءت جرائم العدوان على هذا الشعب في غزّة تؤكّد المؤكّد بشأن السيد الرئيس. ولا يحتاج واحدُنا إلى حصافةٍ خاصةٍ ليوقن أن اللقاء الذي لم يُخبَر به ترامب، بعدَه وقبله، مع مسعد بولص، لم يكن لينفع في شيءٍ بشأن الساكن المرتقب في البيت الأبيض. يحتاج عبّاس إلى مصارحةٍ مع نفسِه، أن يصير ثائراً مرّة واحدة وأخيرة، أن يثور على شخصه، فيغادر الملعب، لا أن يستنجد برجل أعمالٍ على صلة مصاهرة مع رئيس الدولة الأقوى.