في هجاء الضجر
الشابّتان اللّتان من سنغافورة، أو من غير سنغافورة، مرجّحٌ أنهما من بلدٍ في شرق آسيا، تتحدّثان بما يُشبه الهمْس. لا أحاول الإنصات إلى ما تقوله إحداهُما للأخرى، ليس لأن لغتَهما لا أفهمها، ولا لأن همسَهما لا يُسمعني كثيراً مما تتبادلانه من كلام، ولا لأن لا جملَ ولا ناقةَ لي في شأنِهما، وإنما لأنني أكتفي بأن تجول عيناي في كل الذين في الحافلة، واقفين وقاعدين، وكنتُ، في ذلك المساء المتأخّر، من القاعدين. كانت الحافلة تأخذُنا من بابٍ في المطار إلى حيثُ الطائرة التي سنسافر فيها. يحيّرني هذا النوع من الحافلات، لا تنتظم الكراسي فيها باتّساقِ ما نعرف في عموم الحافلات، ما هي الحكمة بالضبط لدى صانعيها من صُنعِها على هذه الهيئة...
لسنا هنا كل الركّاب، سبقَنا غيرُنا في ثلاث حافلاتٍ، على ما لاحظتُ، وربما يتبعٌنا آخرون في أُخريات، والبادي أن الطائرة ستكتظّ بنا، فعددُنا كبيرٌ على ما رأيت. راقني، وأنا أصرفُ عينيّ عن تينك الشابّتيْن اللتيْن خمّنتُ أنهما من سنغافورة، ثم لم أعُد أكترثُ إن كانتا من هذا البلد حقّاً أم من غيره، راقَني أن أرى في سِحن الناس وتقاسيمهم هنا تنويعات البشر في الأرض. اثنان يرتديان الزيّ الخليجي، وثلاثة لمحتهم يلبسون الأرديةَ الطويلة التي لا تصل إلى القدمين، الفضفاضة كما سراويلهم، لعلهم من الهند أو باكستان أو بنغلادش. ثمّة رجالٌ، سمرٌ وسودٌ، كان أحدُهم يبتسم، وعلى محيّاه انشراحٌ غزير، يستمع إلى رفيقٍ له معه، وصلتْ إلى مسامعي مفرداتٌ فرنسية. هم من بلادٍ في أفريقيا لم أنشغل بأن أحزرَ أسماءَها، ولا فرق، عندي، إن كانوا من غانا أو من ساحل العاج أو من غيرهما. أرتاح، بطبعي، عندما أصادف ناساً من هذه البلاد في مدنٍ أزورها، أو في أسواقٍ أو مقاهٍ أتردّد عليها. نساءٌ، بينهنّ شابّات كثيراتٌ، يرتدي بعضهن جلّابيات مغاربية، تدلّ على بلادهن. السيدة الأنيقة النحيلة، السبعينية كما قدّرتُ، إلى جانبي، تنظر من الزجاج إلى سياراتٍ وعمّال وطائرات واقفة. بدت لي أوروبية، وهذا لا يهمّ، فنحن جميعاً سكّان الحافلة مسافرون، هذه صفة توحّدنا، ستطيرُ بنا الطائرةُ بعد نصف ساعة ربّما، وتحلّق فينا بين السماء والأرض، فوق بلادٍ وبلادٍ، فوق مدن وصحارى وبلداتٍ وأرياف. سنهبط بعد نحو ثماني ساعات، الوقتُ الآن ليل، سنصلُ في الثامنة صباحاً. قد لا أستطيع النوم، سأحاول، والأرجح أنني لن أفلح، على غير ما أغبط عليه كثيرين، سرعان ما يبدؤون النوم، وبأيِّ كيفيّة، بل يشخرون أحياناً، فور أن يستقرّوا في مقاعدهم، وتصير الطائرة بين السَُّحب والغيوم، وعلى مقربةٍ من نجوم غير مرئيةٍ بعيدة. لا أدري عن حظّي في مقعدي، من سيكون إلى جانبي، وهذا موضوعٌ ليس تفصيليّاً في رحلةٍ طويلةٍ كالتي نتأهّب لها. لا أتوقّع أنني سأصادفُ نفسي مع شخصٍ أعرفه من قبل، فلم ألحظ أحداً أعرفه من بيننا، لمّا اصطففنا قبل أن نتوزّع على الحافلات التي تأخذُنا الآن إلى الطائرة.
... أخاف منه، الضجر الثقيل الذي سأكون عليه في الساعات الثماني في الليل البهيم. لن يكون في وسعي أن أقرأ شيئاً في روايةٍ ترافقني في حقيبتي. أتحسّب منه وأنا لمّا أصعد إلى الطائرة بعد. ما زلتُ في الدقائق العشر (أو أقلّ؟) في الحافلة التي تحرّكت، بعد شيءٍ من انتظارٍ ما، إلى الطائرة. توسّلتُ حديثاً مع نفسي، أحاول به الخروج من هذا الشعور المبكّر إلى ما هو أرفعُ وأعلى. كأن أسألُ نفسي عن أسباب المنازعات في العالم، وعن الفوقيّات والمنافرات في غير بلدٍ وبلدٍ، وبين هذه الدولة وتلك، فيما هذا التلاقي هنا، في هذه الحافلة، وسابقاتها وتالياتها، بين شعوبٍ من كل قارّات الأرض، بين أجناس وسِحن وأديانٍ وعقائد متنوّعة، دليلٌ ظاهرٌ على أن في وسع الأمم والبلدان أن يأنَس بعضُها ببعض، وأن تُبعد عن نفسها أسباب البغضاء، وتُغلّب سبل الوئام والتفاهم عليها. ثم وجدتُني على فائضٍ من السذاجة، وأنا أحدّث نفسي بهذا، فليس مرأى شابّتين من سنغافورة (أو من غير سنغافورة كما أوضحتُ أعلاه) مع سيّدة أوروبية سبعينية ورجلين من الخليج العربي وآخرين سمر أفارقة، ونسوةٍ مغاربيات، وغير كل هؤلاء من بلاد بعيدة وقريبة، ليس مرآهُم في حافلةٍ ليست كما الحافلات دلالةً على شيء. إنما الإتيان هنا على جمعهم هذا في أقلّ من عشر دقائق، قبل طيرانٍ إلى الدار البيضاء، وقبل ضجرٍ وسأمٍ ثماني ساعات غالبتُهما بجُهدٍ مُتعبٍ، ما كان إلا لدفع ضجرٍ أفدح وأتعس، يغشى الحشايا من فرط أسباب كآبةٍ ثقيلةٍ بين ظهرانينا لا تنفكّ تفترس أرواحنا.