مجزرة كوريّة و"نوبل" وروايتان عربيتان
جاءت الأكاديمية السويدية، في بيان تسويغها إعطاء جائزة نوبل في الآداب للكورية هان كانغ، على وعيٍ فريد لدى هذه الروائية (والشاعرة) بالعلاقات بين الجسد والروح، وبين الأحياء والموت. وأشارت إلى أعمالٍ لها، منها رواية "أفعال بشرية" التي ارتكزت وقائعُها وظِلالُها على واقعة قتل الجيش الكوري في مجزرةٍ أزيد من مئتي مدني أعزل، غالبيّتُهم طلابٌ جامعيون، في أحداث انتفاضة مايو 1980 في مدينة غوانغجو (مسقط رأس الكاتبة). وذكرت الأكاديميّة أن هذه الرواية (صدرت في 2014) منَحت "ضحايا التاريخ" صوتاً، "بتجسيدٍ قاسٍ للواقع"، وبذلك يقترب النصّ من نوع "أدب الشهود". ولمّا كان من حُسن الحال أن الرواية نُقلت من الكورية إلى العربية بترجمة محمد نجيب (دار التنوير، بيروت، 2020)، فإن قارئها العربي سيغبِط أولئك الضحايا الذين قضوا في تلك المذبحة قبل 44 عاماً لأن روايةً عنهم انتبهَت إليها لجنة "نوبل للآداب"، فكرّمت كاتبتَها بالجائزة الكونيّة العتيدة، فيما ضحايا عربٌ قضوا في مذابح وانتفاضاتٍ وأحداثٍ داميةٍ برصاص سلطات بلادهم (ليس الحديث هنا عن شهداء أيٍّ احتلال أو استعمار أو عدوان) ينتظرون أن تنكتب عنهم رواياتٌ تحضُر فيها أصواتُهم، من دون أن ننتظر، نحن الأحياء، نيْل كاتبي هذه النصوص جائزة نوبل.
وجدتُني وأنا أقرأ "أفعال بشرية" (اختار الناشر العربي هذا الاسم فيما عنوان الرواية "الصبي يأتي") أتذكّر رواية المغربي عبد القادر الشاوي "مُربَّع الغُرباء 1981" (دار الفنك، الدار البيضاء، 2023)، والتي تستعيد أحداث انتفاضة يونيو 1981 في الدار البيضاء، لمّا واجهت السلطات المغربية إضراباً احتجاجياً على رفع الأسعار بالرصاص والعنف الشديد. لا تلتقي الروايتان فقط في مقاطع يبحثُ فيها أشخاصٌ عن جثث أقارب لهم في المستشفيات ويدقّقون ليتعرّفوا إليها، بل أيضاً في متشابهاتٍ أخرى غير قليلة، وأيضاً في الابتعاد عن الحدث سنواتٍ، ثم استعادته، بفتح قبورٍ والتملّي في جماجم وعِظام. وأيضاً تناوُب السرد في الروايتين على عدّة أمكنة وأزمنة، وقد تناوَبَ الساردون عن ذينك النهاريْن في الدار البيضاء، وذلك اليوم القاسي في مدينةٍ في جنوب غرب كوريا الجنوبية. ... يا لها من مفارقة، يُحرم صديقُنا السبعيني عبد القادر الشاوي من جائزة نوبل للآداب، فيما تُعطى للخمسينية هان كانغ، واثناهما أعطيا لضحايا التاريخ أصواتهم، وتزاملت روايتاهما في "أدب الشهود".
هناك، ... في حماة السورية، وقعت في فبراير/ شباط 1982 مذبحةٌ أشدّ روْعاً من الواقعتين، الكورية (200 قتيل ومئات الجرحى وآلاف المعتقلين)، والمغربية (نحو ألف قتيل ومئات الجرحى وآلاف المعتقلين). قضى فيها، على ما تردّد، 25 ألف سوري من ساكنة المدينة، في عُسفٍ دموي ارتكبته قواتٌ شرسةٌ في النظام السوري، بدعوى مقاتلة الإخوان المسلمين. كتبت منهل السرّاج روايتها "عصيّ الدّم" (دار الآداب، بيروت، 2012)، لم تمنح فقط بعض "ضحايا التاريخ" في المدينة السورية المنكوبة أصواتهم، وإنما اعتنت أيضاً بالمحو الذي أحدثه القمع الدموي بالمدينة. ويتصادى، في ظنّ صاحب هذه المقالة، سؤالُ محقّق الأمن في الرواية وحيرته "أين يذهب بكل هذه الجثث؟" بتيهِ جثثٍ في رواية عبد القادر الشاوي في مقبرةٍ غير معلنة، وفي تيه جثثٍ في رواية هان كانغ وهي تبحث عن حقّها في الدفن. وإذا كانت عائلةٌ حمويةٌ، من خمس بنات وثلاثة شبان، هم رواة الحكاية في عمل منهل السراج، والذين استعادوا المقتلة، فإنهم أربعة رجالٍ وامرأة يفعلون هذا بشأن واقعة الدار البيضاء. أما أصغر من نالوا "نوبل للآداب"، الكورية هان كانغ، فقد أعطت الحكي لنفسها راويةً ولصبيٍّ وشقيقِه الأوسط وأمهما وأحد الأموات في المقتلة، ترقد جثّته بين جثثٍ أخرى، فيسترسل في تذكّر وقائع مضت، موصولةٍ بأجواء قمْع وعُسفٍ شديديْن في زمن الدكتاتور الذي اغتيل، تشونغ باراك. وتبلغ لعبة تناوب الساردين في الرواية مستوىً مربكاً، على غير ما هي في رواية عبد القادر الشاوي، غير أنه إرباكٌ على قدرٍ من الإمتاع. ولكن، أيُّ إمتاعٍ في سردٍ عن جثث، وعن موتٍ في الوُسع حسبانُه بطلاً رئيساً في هذا العمل الذي قرّظه ناس الأكاديمية السويدية، لم يقرأوا منهل عن حماة والشاوي عن الدار البيضاء.
هل ستنكتب روايةٌ عن المجزرتين في ميداني رابعة العدوية والنهضة في القاهرة، وقد قضى نحو ألف آدميٍّ فيهما (أغسطس/ آب 2013)؟ أرجّح أن شابّاً مصرياً صاحب ملكةٍ وموهبةٍ، وعارفاً في حرفة السرد والقص، سيكتُبها.