عام الإبادة والعري العربي
تعوّذنا من الشيطان الرجيم، نحن بعض الأصحاب، لمّا طلب أحدُنا من كلٍّ منّا أن يضع نفسَه مكان نتنياهو، ثم يسأل نفسَه عن سببٍ يجعلُه يوقف حرب الإبادة على ناس غزّة وعُمرانها. وهذا سؤالٌ وجيه: ما الذي يجعل رئيس الحكومة الفاشية إيّاها أن يوقف هذه الحرب؟ لا يلحّ أحدٌ في إسرائيل عليه بهذا، وإنْ يطالبه المشاركون في المظاهرات الحاشدة بإبرام صفقةٍ مع حركة حماس تعيد المحتجزين لديها، مدنيين وعسكريين، ولو بثمن وقف الحرب. ولا يُخفي أركان المعارضة أنهم، عندما يلحّون على هذا، يدعمون استئناف العدوان بعد ذلك. وفي الخارج، كان "حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها" في منزلة العقيدة لدى دول كثيرة، من دون اكتراثٍ بالأكلاف الإنسانية الباهظة التي ما انفكّت تشتدُّ منذ الأسبوع الأول للحرب. وإذ تحسّنت مواقف بعض تلك الدول، عندما التفتت، بعد وقت، إلى فداحة ضرب المستشفيات وقتل مئات المدنيين يومياً وتدمير مظاهر الحياة الطبيعية وشروطها، فإن هذا التحسّن المحمود لم تواكبه أي إجراءاتٍ من هذه الدول ضد دولة العدوان. ولا يجوز إغفال الدور شديد الأهمية للأمم المتحدة، وأمينها العام، ومؤسّساتها وأجهزتها، في تنوير العالم بما ظلّ يلحق الغزّيين من جرائم مروّعة. وإذا تذكّرنا أن الولايات المتحدة التي صوّتت في مجلس الأمن ثلاث مرّات ضد مشاريع قراراتٍ لوقف إطلاق النار، قبل أن تصوّت إيجاباً في مرّة رابعة، بات رئيسُها ونائبتُه ووزير الخارجية، منذ ثلاثة أشهر، يقولون هذا، ويؤطّرون مقترحاتٍ وصيغاً له، إلا أنه ظلّ في المربّع اللفظي غير الضاغط على إسرائيل، بل واكبه تزويدها بما يلزمها من أسلحة الفتك والمحو، فالرئيس بايدن علّق، في مايو/ أيار الماضي، تسليمها قنابل تزن ألفي رطل وأخرى تزن 500 رطل، ثم أذِن، في أغسطس/ آب الماضي، بتسليمها القنابل الأخيرة.
أغضبت نتنياهو بعض نداءاتٍ ومطالبات، وأزعجه أن يصبح جوزيب بوريل صاحب صوت عالٍ في نداءاته لوقف العدوان، ولم تسرّه مواقف (وإجراءات) متقدّمة بادرت إليها دول في أميركا اللاتينية، وأثقلت عليه محكمتا العدل والجنايات الدولية، لكنّ لواحدِنا أن يخمّن أن دولة الاحتلال مغتبطةٌ بما لا شطط في تسميته العري العربي في غضون العام الذي يكتمل اليوم، فإذا كانت بياناتٌ وخطاباتٌ لزعماء وقادة ووزراء ومسؤولين عرب، في منتظماتٍ دولية، وفي اتصالات مع عواصم وازنة، ممتازةً في التشهير بإسرائيل وجرائمها في غزّة وبانعدام اكتراثها بالقانون الدولي، فإنها لا تُغيّب أن دولة الاحتلال هذه لم تُقم في يوم اعتباراً للحروب الكلامية ضدها، ولم تحترم أي قرار أممي أو دولي أو إقليمي يطالبها بشيء. ولا يُشار إلى هذا للاستنكاف عن فتح كل الجبهات السياسية والدبلوماسية والقانونية ضد إسرائيل، وإنما للتذكير بأن لا موضع لحرج الأنظمة العربية (وغضبها) من فظاعاتٍ لم يتوقّف جيش الاحتلال عن اقترافها على طاولة هيئة أركان هذا الجيش وكبار جنرالاته عندما يعيّنون مسارات الصواريخ وقذائفها على مدارس ومراكز إيواء ومستشفيات في مواصي خانيونس ودير البلح وجباليا ورفح وشقيقاتها.
نقول العري العربي، لأن الانكشاف الذي بدت عليه حكومات دولٍ عربيةٍ يفترض أنها وازنة بدا أفدح مما كان ليس مستبعداً. ولسائلٍ أن يسأل هنا عمّا منع الرئاسة المصرية عن التلويح بإعلان تعليق معاهدة السلام مع إسرائيل، بل بإلغائها إذا تمادَت الأخيرة في جرائمها؟ لماذا لم تتذكّر عمّان أن الملك الحسين وضع معاهدة السلام في كفّة وترياق المواطن الأردني خالد مشعل (1997) في كفّة؟ ما الذي كان يجعل البحرين والإمارات والمغرب على هذا التمسّك بمعاهداتهم الإبراهيمية واتفاقاتها الكثيرة مع دولةٍ يُتّهم رئيس حكومتها بارتكاب جرائم حرب؟ ... لا نقول العري العربي لأن قضية فلسطين لم تعُد مركزيةً عند صنّاع القرار الرسمي العربي، ولا لأن الدول العربية تخلت عن استراتيجية مواجهة إسرائيل عسكرياً منذ 1973، وإنما لأن رئيس مصر لا يرى، في أسابيع العدوان الأولى، مخاطر في تهجير الغزّيين إلى النقب أو غيرها، وإنما في تهجيرهم إلى بلده، ولأن من كتبوا قراراً لمؤتمر عربي إسلامي بإدخال المساعدات إلى القطاع فوراً كانوا أعجز من أن يطلبوا من القاهرة عدم الامتثال لقرار أهمّ أخذه المعتدون، تفتيش كل شاحنة مساعدات بالكيفية التي يروْنها، وبالترخيص لمرورها بحسب تقديرهم.
كان عام الإبادة، وعام قضية فلسطين طبعا، وعاماً ساند فيه الانكشافُ العربيٌّ إلى حدّ العري المعلن نتنياهو في عدم وقف المذبحة.