نزهة قروية
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
جاءت الدعوة من الصديق يحيى الناعبي لزيارة قريته، اللاجال، وكان في الرفقة حمود سعود صاحب المجموعة القصصية "المرأة العائدة من الغابة تغنّي". اسم القرية المركون وحيداً في مواجهة الرياح والزمن مكتوب عليه خطأ "الآجال"، وهو عكس المعنى الحقيقي في المنطوق العُماني "اللاجال"، والذي تذهب سهام معناه إلى ما هو نقيض الموت تماماً، أي إلى البرك المائية، حيث تسمّى البركة المائية في اللهجة العُمانية باللجل، وبالتالي يكون جمعها اللاجال. ويبدو أن من كتب اللوحة من خارج هذه القرية الوادعة، لذلك استعاض بالموت عن الحياة، أو أنه لم ير من القرية سوى المقبرة فيها (أول شيء رأيناه فيها). الغريب أيضاً أن أهل هذه القرية يضعون المقابر في صدور الجبال، تحسباً من أن تجرفها مياه الوادي ساعة جريانه، وكأنما ذلك العلوّ جاء حماية للأموات من زوال آثارهم وشواهدهم.
لا تلمح في اللاجال إلا الأهالي (العُمانيين). وكل من يمر قبالتك منهم لا بد من أن يقف وهو يرفع يده مسلّماً، يرفرف يديه إلى أن تعبُر بسيارتك وتختفي في منعطف. وحين مررنا على برك مائية عديدة وأفلاج ينتهي كل منها بـ"لجل" أو بركة بين دافئة وباردة وساخنة، أدركنا المعنى البليغ لاسم قرية الناعبي. أفلاج داودية وأخرى غيلية، فلج "الصبيخة" الحار، وفلج "القش" الجبلي، وفلج "المحيول" و"المحديث" و"السليل"، ما يؤكّد وفرة الماء والمعنى الأكيد لاسمها الذي لا يقربه الموت.
من الابتكارات الملفتة وجود ما يشبه ثلاجات مفتوحة، وهي أحواض صغيرة تُملأ في الليل بماء عذب لتبرد. وفي النهار يشرب منه الناس والطيور، كدعوة مفتوحة إلى الشرب، لذلك يمرّ عليه المزارعون القادمون من قمم النخيل بعد عناء يوم من العمل، وخصوصاً في وقت الصيف القائظ، أو ترفرف فوقه العصافير لتأخذ غرفتها من الماء وتمضي محلّقة. كما وجدنا حوضاً آخر لاصطياد أسراب الطيور، الغريب أنه يعلوه وعاءٌ فخّاري مثقوب يخرُج منه خيط ماء يُصدر خريراً، الخدعة التي يتم بها دعوة سرب الطيور المهاجرة السريعة التي تغرف عادة غرفة واحدة من الحوض قبل أن تطير، ولكن الكمين يكون معدّاً في تلك اللحظة، حيث ينتظرهم شبك الاصطياد ليحبسهم في أماكنهم، يظهر بعدها الصيادون المختبئون.
وكان الأهالي، في ما مضى، يعتمدون في طعامهم كذلك على لحم هذه الطيور المهاجرة، حيث تملّح بعد أن تنظّف لتكون طعاماً لموسم الشتاء. في الأعلى، توجد كلك قرية مسوّرة تسمّى الحجرة، تحاكي قرية اللاجال، وهي، في الوقت الحالي، مهجورة، تشبه قلعة طينية مسوّرة فيها بهو كبير في الداخل يسع سكان القرية، إلى جانب حصن للحماية، كان الأهالي في ما مضى يلجأون إليها في الأوقات العصيبة، طلباً للحماية من أنياب بشرية وطبيعية، وقد بدت من الأسفل شبيهة بقلعة إنكليزية عتيقة.
ثم تجوّلنا في أطراف القرية، حيث تنتهي بواد حصوي، يفصل بين قريتين، اللاجال والقارّة، وكانت فرصة للتندّر، فيحيى جاء حديثاً من أستراليا، وهي قارّة بين محيطات، وهذه كذلك تحمل اسم "القارّة"، هي الأخرى مُحاطة بالمياه، خصوصاً حين يهبط الوادي، فإنها تنقطع عن العالم، والذين يكونون في سياراتهم ينتظرون طويلاً حتى ينضب ماؤه، لكي يتمكّنوا من المسير. وقد كان الأجداد في ما مضى يستطيعون أن ينتقلوا بواسطة الحمير التي بإمكانها أن تصعد الجبال. وجدنا على مطلع قرية القارّة ثلة من الأهالي يجلسون في الخارج أمام عتبة بيتهم، يحتسون القهوة ويزدردون الفاكهة. وقفوا جميعهم حين لمحونا ولوّحوا لنا يطلبون منا التوقف لمشاركتهم الزاد، أشار إليهم يحيى (كان يقود السيارة) بيده، بأنه سيتعمّق في الدخول إلى القرية أولاً ثم نعود إليهم. كانوا يطلبون ذلك من أي غريب يدخل إلى قريتهم. وحين دخلنا وجد يحيى رجلاً يبيع الماء بسيارته، صرخ ناحيتنا من بعيد "أهلاً أستاذ يحيى"، رفعنا له أيادينا تحية. قال لنا الناعبي لا بد أنه أحد طلبته، إذ عمل يحيى قبل 28 عاماً معلماً في مدرسة القرية، لبّينا دعوة القهوة التي جاءتنا على مدخل القارّة.
حين أزف الظلام، أدخلنا الناعبي بيتهم العائلي. ساعة وظهر صحن العشاء. وقد تركت الوالدة الكريمة بصمتها عليه، حين خبزت بيديْها خبزاً عُمانياً رقيقاً. انطلقنا عائدين بعد العشاء، وقد تركنا وراءنا قريةً وادعة لا حدّ لثرائها، لا يمكن أن يلمحها العابر بسهولة، لولا وجود أحد من أبنائها بصحبتنا.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية