نبكي أولادنا الشهداء .. على انفراد
في الليل، وبعد أن خلا البيت من آخر المشيّعين، فتحت أم إبراهيم النابلسي الأبواب والنوافذ لمشاعرها الإنسانية، وأطلقت سراح دموعها، تركتها تندلق حزناً على فراق ابنها إبراهيم، دموع لا يجفّفها منديل الصبر، دموع مشحونة بلوعة الفراق، وموصولة بخزّان الذكريات مع الطفل إبراهيم، ففي هذه الغرفة كانت خطواته الأولى، وفي هذا المكان؛ امتلأ البيت بحركاته، وفي هذا الركن من البيت تفتحت الابتسامة على ثغره، هنا تناول الطعام، وهنا كان ينام، وراحت أم إبراهيم تتلمّس السرير الذي نام عليه إبراهيم. إنه هنا، فما زالت تشمّ أريجه، إنه هنا، لم يغادر المكان، فهذا قميصُه الذي يحتفظ برائحة الطفولة، وهذه أشياؤه، هذا مكتبه. ومن خلال سحابة الدموع، تحتضن أم إبراهيم شهادة إبراهيم، وقد تخيّلته عائداً من المدرسة، يومها احتضنته، وقبّلته، ونظرها يجول في البيت الذي ضم تحت جناحه إبراهيم. هنا تعثّر في خطواته الأولى. هنا بكى، وتبكي أم إبراهيم بصمت بليغ، تبكي بفخر مغمسٍ بالحنين، ودموعها تنزلق بكبرياء، إنها الدموع الحبيسة التي أبت أن تظهر أمام الكاميرا، وأبت أن تلتقطها الفضائيات.
لم تنم ليلها أم إبراهيم النابلسي، فيكف ينام من فارق روحه، وأمسك بالحزن من قرنيه؟ وكيف تنام العين والقلب ينقبض من وجع الفراق؟ كيف تنام العين؟ وكلمات إبراهيم لمّا تزل تتردّد في أذنها، وهو يودّع أمه من قلب الحصار، ومن وسط لهيب النيران، ويقول لها: أنا أحبّك، يا أمي، فتشهق أم إبراهيم، ويندلق نهر الدموع، وهي تقول: وأنا أحبّك، يا إبراهيم، هو يقول لأمه: سأكون شهيداً بعد دقائق يا أمي، وأمه تقول: وأنا أحبك ملء السموات والأرض يا إبراهيم، ولا أرى إشراقة الشمس إلا من جبينك. أحبك يا إبراهيم، يا حمامة السلام التي شقّت طريقها من فوهة البندقية. أنا أمك، يا إبراهيم، وأنا أحبّك، ولن يهمد الجرح، فسكّين الفراق لن تصدأ، ستظلّ تطعن الصمت، وتحزّ على عنق كل من كان سبباً في غيابك، يا إبراهيم.
أحبك يا إبراهيم، يا حمامة السلام التي شقّت طريقها من فوهة البندقية
المشاعر الإنسانية التي تعيشها أم إبراهيم عشية خلا البيت إلا من صورة إبراهيم، والذكريات، تلك المشاعر الإنسانية لا يقدّرها إلا إنسان امتلك قلباً، واستنشق الرحمة من بساتين العذاب. مشاعر أم إبراهيم النابلسي عاشها من قبل والد الشهيد رعد حازم، حين انتصب واقفاً لحظة سماعه خبر استشهاد ابنه، فخرجت من فمه كلماتٌ بريئة وعفوية، وصادقة، كلماتٌ لا تحاكي لحظة الحزن، وإنما تضمد جراح الوطن، وترسم خريطة المستقبل، وهو يجسّد معاني التضحية بمواصلة التحريض على حب فلسطين، والسير على درب العطاء.
هل قرّرت أم الشهيد إبراهيم النابلسي أن تنافس والد الشهيد رعد حازم في عشق فلسطين؟ أم أننا أمام مشاعر إنسانية، لا تسيطر عليها الحسابات الشخصية، ولا تخضع للمعادلات الهندسية، مشاعر إنسانية كشفت عن مرحلة جديدة من حياة الشعب الفلسطيني؛ مرحلة السباق إلى التضحية من أجل الوطن، مرحلة التنافس في التعبير عن حبّ فلسطين، وذلك ردّاً على المطبّعين العرب، فوالد الشهيد رعد حازم ووالدة الشهيد إبراهيم النابلسي يخاطبان بصمودهما جماهير الأمة العربية كلها، ويتحدّثون لدول التطبيع بكبرياء يخلو من الدموع، ويقولان بصوت الحقيقة، نحن فداء أمتنا العربية، نحن ندافع عن شرفكم، يا قومنا، نحن نضحّي واقفين من أجل سلامتكم، ولن نركع لهذا العدو، فلا تخذلوا عطاءنا، ولا تطعنوا ظهرنا بعلاقاتكم مع عدوكم وعدونا؟
يوم استشهاد ابني حازم، أخفيت الدمعة، حبستُها، وخرجت أمام الفضائيات في عدّة لقاءات، أتحدّث عن المقاومة، وعن دور أولادنا المقاومين في صد العدوان على غزّة سنة 2014. كنت فخوراً وأنا حزين، كنت شامخاً وداخلي يتمزّق، ولم أبد أي مظهر للجزع، حتى وأنا أقف في المقبرة، وألقي كلمة الوداع على روح ابني، ومن فوقنا تحلّق الطائرات الإسرائيلية، فنحن في قلب المعركة، ومن يخوض المعركة لا يفكّر إلا بالنصر، لا يلتفت إلى الخسائر، ولا يقرأ العواقب، من يعيش المعركة لا يقصم ظهره إلا الهزيمة، ولا يشغل باله إلا كيفية الانتصار على عدوه.
مشاعر إنسانية كشفت عن مرحلة جديدة من حياة الشعب الفلسطيني؛ مرحلة السباق إلى التضحية من أجل الوطن
سبقتني في مثل هذه المشاهد أم محمد فرحات، المرأة الفلسطينية التي كانت على تواصل مع ابنها عبر الهاتف، وهو يقتحم إحدى المستوطنات الصهيونية، كان ذلك قبل انسحاب الجيش الإسرائيلي من قطاع غزّة، وظلت أم محمد تتابع وقائع المعركة عبر الهاتف، حتى ارتقى ابنها محمد شهيداً.
ويشهد المقرّبون للشهيد الدكتور نزار ريان أنه جهز ولده بالحزام الناسف، وقبّل جبينه، قبل أن يرسله إلى تنفيذ عملية استشهادية داخل مستوطنات قطاع غزّة سنة 2001. وقد يكون الدكتور البروفسور جمال الزبدة نموذجاً للفلسطيني الذي زاول المقاومة عن دراية واقتدار، هو وابنه المهندس أسامة، عن وعي وإدراك، ليرتقيا معاً شهيدين في العدوان على غزّة سنة 2021. تكرّرت مشاهد العطاء مع الدكتور محمود الزهار، الذي ودع أولاده واحداً إثر واحد، وهذا ما حصل للدكتور خليل الحية، الذي ودّع أولاده وأحفاده، وبعض أفراد أسرته دفعة واحدة، ليخرج إلى وسائل الإعلام يحثّ على الصبر والمقاومة.
هذه ليست بطولات فلسطينية خارقة، ولا هي رباطة جأش غير عادية، ولا هي استثناءات، هذه بعض حالات المقاومة الفلسطينية التي يخوضها شعبٌ على المستويات كافة، فريم الرياشي التي تركت ستة من أولادها، ونفّذت عملية بطولية نموذجاً للمرأة الفلسطينية، والفتى أحمد نصر جرّار الذي سار على درب أبيه، وطارد أعداءه في شمال الضفة الغربية عدة أشهر نموذجاً للفلسطيني الذي آمن بربه، ووثق بقدرات شعبه على مواجهة المحتلين.
نحبّ أولادنا كثيراً، ونبكي فراقهم كثيراً، ونرتجف لذكر أسمائهم كثيراً، ولكننا نحبّ الوطن فلسطين أكثر
وتبقى أم إبراهم النابلسي، بابتسامها المستفزة للمخابرات الإسرائيلية، على قمة جبل العطاء، ذلك العطاء الذكي، العطاء عن حاجة ومحبّة، لا العطاء عن فائض أحمال، عطاء الواجب لا عطاء الاضطرار، عطاء الكبرياء لا عطاء انتظار المقابل، إنه العطاء الصافي الذي عكّر مزاج الصهاينة، وهم يرقبون، بخوف وقلق، المرأة الفلسطينية، وهي تشارك الشباب في حمل جثمان ابنها إبراهيم، وهي تبتسم للكاميرا، وكأنها تزفّ ابنها إلى عروسه، ولسانها يقول: لن تروا لنا دمعةً، لن نسمح لكم بالفرح مرّتين، مرة بموت الأحبة، وأخرى بالشماتة بدموع الأمهات والآباء، لن تروا الحزن في عيوننا، لن نكافئكم على جرائمكم بالدموع، ولكم الفزع يا أعداءنا، لكم عيوننا معبأة بالغضب، ولنا دموعنا، دموعنا لنا وحدنا في عتمة الليل، حين نضع رؤوسنا على الوسادة، وتمتد أصابع يدينا تتحسّس رأس الأحبة، تمسّد شعرهم، تلامس شفاههم، نقبلهم في الخيال، ولا نفارقهم أبداً.
نشر أحد الصهاينة صورة أم إبراهيم النابلسي وهي تحمل نعش ابنها، وعلق عليها: عندما أرى هذه الأم التي تزغرد لموت ابنها، بدلاً من الصراخ والعويل، أتذكّر مقولة رئيسة وزراء إسرائيل السابقة غولدا مائير: سنحقق السلام عندما يحبّ الفلسطينيون أولادهم أكثر مما يكرهوننا. .. وأنا كوالد أحد الشهداء أقول للصهاينة: نحن نحبّ أولادنا كثيراً، ونبكي فراقهم كثيراً، ونرتجف لذكر أسمائهم كثيراً، ولكننا نحبّ الوطن فلسطين أكثر.