بريطانيا تتجسّس على غزّة... أيضاً
لم تنتصر إسرائيل على الجيوش العربية بالقوة والخديعة فقط، انتصرت في كثير من حروبها بعد حصولها على المعلومة، ومن ثم توظيف هذه المعلومة بما يعزّز من قوة إسرائيل ومكانتها، فهذا الكيان أحرص ما يكون على جمع المعلومات عن كل شيءٍ في المحيط؛ عن الحكومات وعن أجهزة المخابرات، وعن المؤسّسات وعن الأحزاب والتنظيمات والشركات، وحتى عن الشخصيات الوازنة داخل المجتمع، إعلاميين كانوا أو مثقفين أو علماء أو رجال دين أو شخصيات مؤثرة داخل المجتمع.
خزانة المعلومات الإسرائيلية مغلقة تماماً، وقد تفوق بسرّيتها خزانة القنابل النووية، فقنبلة المعلومات السرّية هي التي فتحت الطريق لامتلاك إسرائيل القنابل النووية، وخزانة المعلومات السرّية هي التي تغلق الطريق أمام امتلاك غيرهم القنبلة النووية، ولا تفتح خزانة المعلومات أبوابها إلا للقيادة السياسية عند الحاجة. قبل أيام، وعشية تفجير أجهزة البيجر في لبنان، زار رئيس حكومة الاحتلال، نتنياهو، مقرّ المخابرات الخارجية (الموساد)، وجرى فتح خزانة المعلومات أمام هيئة أركان الجيش، ولبقية الأجهزة الأمنية التي تعمل في هذا المجال، وكل حسب اختصاصه.
حاولت المخابرات الإسرائيلية الوصول إلى مقسم الاتصالات الداخلية لحركة حماس، وجرى إحباط عملية التجسس
جهاز الشين بيت، جهاز المخابرات الإسرائيلية المختصّ بالأمن الداخلي، والمقصود الأمن الإسرائيلي في غزّة والضفة الغربية، وهو يعمل في أوساط العرب الفلسطينيين المقيمين ضمن حدود 1948. ولا يستثني الإسرائيليين أنفسهم، وجهاز الأمن الداخلي هذا هو المكلف بمتابعة نشاط التنظيمات الفلسطينية، وتحرّك المقاومين الفلسطينيين، وهو المكلف بجمع المعلومات الدقيقة عن كل ما يتعلق بالشأن الفلسطيني الداخلي، بمن في ذلك الأفراد، وقد سعى هذا الجهاز، على مدار سني الاحتلال الطويلة، إلى أن يحيط رجاله بهالةٍ من السرّية والمقدرة، وسعى إلى زرع القناعة لدى الجمهور الفلسطيني بأن "الشين بيت" يعرف ما توسوس به الأنفس، وأنه يطلع على دقائق الأمور فيما يتعلق بحياة الفلسطينيين، وقد استدعى ضباط هذا الجهاز مئات آلاف الفلسطينيين للمقابلات العلنية والسرية، واستقصى منهم عن تفاصيل حياتهم، وحياة جيرانهم وأهلهم وأصدقائهم، ووثق كل ذلك في معلومة، كان يوظفها حين يستدعي أحد الشباب الفلسطينيين للمقابلة، ويفاجئه بالمعلومات التي يعرفها عن حياته، ولم يكف جهاز الشين بيت عن عرض الخيانة، والتعامل مع الجهاز على كل من يستدعيه، حتى ولو كان مقاوماً، أو مختاراً أو مديراً أو شخصية عامة أو رجل دين، فاللازمة في نهاية كل لقاء مع رجال المخابرات الإسرائيلية، تعال لنعمل معاً، تستفيد، ونستفيد، نقدم لك التسهيلات والامتيازات، ولا تقدّم لنا المعلومات، وإنما تكون ضمن الأصدقاء، في خطوة أولى لاستدراج المواطن، وجرجرته إلى صفوف التعاون الأمني.
نجح جهاز الشين بيت مع بعضهم، واستطاع أن يضم إلى صفوف العملاء من وهنت عزيمته، ووقع في الشرك، وفشل جهاز الشين بيت مع الأغلبية العظمى من الشعب الفلسطيني، الذي يدرك خبث المخابرات الإسرائيلية، وخطورة التعاون الأمني مع الأعداء، وفي الوقت نفسه، يدرك النهاية المأساوية لكل عميل، وأن أمره سينكشف مهما طال الزمن، وسيجلب المذلة والعار على نفسه وأسرته وذويه.
ورغم عمل جهاز الشين بيت في أوساط الفلسطينيين سنوات طويلة، ورغم توظيف كل مقدّراته وقدراته للتجسس على رجال المقاومة في غزّة والضفة الغربية، ظل الفلسطيني قادراً على صنع المعجزات الأمنية، والتحايل على ضباط المخابرات الإسرائيلية، بل وتجنيد بعضهم أحياناً، وخداع قيادتهم وتصفية بعضهم من خلال العميل المزدوج، الذي أوقع بضباط الشين بيت في الكمائن الفلسطينية.
ظلت المخابرات الإسرائيلية عاجزة عن اختراق شبكة الاتصالات الداخلية لحركة حماس بعد مرور عدة أسابيع من بدء معركة طوفان الأقصى
وعلى مر السنين، استطاع رجال المقاومة الفلسطينيون هزيمة ضباط المخابرات الإسرائيلية في أكثر من موقع، وعلى سبيل المثال: في سنة 2008، نجحت المخابرات الإسرائيلية في إدخال عشرات أجهزة الكمبيوتر التجسّسية إلى رجال المقاومة في قطاع غزة، ورغم بواكير التجربة الأمنية لدى رجال المقاومة الفلسطينية، استطاع مهندس فلسطيني شاب أن يكتشف تشويش جهاز التلفاز، كلما قرب منه جهاز الكمبيوتر، هذه الملاحظة الصغيرة، أدّت إلى اكتشاف عشرات الأجهزة التي كانت تتجسّس على رجال المقاومة.
وحصل أن أدخلت المخابرات الإسرائيلية أجهزة تنصّت في الأجهزة الكهربائية التي تدخل إلى قطاع غزّة من المعابر الإسرائيلية، وتم اكتشافها، وحصل أن حاولت المخابرات الإسرائيلية الوصول إلى مقسم الاتصالات الداخلية لحركة حماس، وجرى إحباط عملية التجسس، وحصل أن نجحت المخابرات الإسرائيلية في إدخال أجهزة اتصال خلوية، معدة للتجسّس، وبعد حين تم اكتشافها، وتدميرها، ليظل التجسس معركة خطيرة وكبيرة، تدور في الخفاء، ومقوماتها الحصول على المعلومة، فالمخابرات الإسرائيلية تدرك أن المعلومة هي أقصر الطرق لتحقيق الانتصار.
لقد اكتشف رجال المقاومة قبل 20 سنة أن الذي يتجسس عليهم، ويدل الطائرات الإسرائيلية على أماكنهم، لقصفهم؛ جهاز الهاتف المحمول، فتخلصوا منه، ولم يستعملوه نهائياً، واعتمدوا الاتصالات الأرضية، وحين اكتشفوا أن الاتصالات الأرضية مرتبطة بالجهاز المركزي الإسرائيلي للاتصالات، تخلصوا منها، وأقاموا لأنفسهم شبكة اتصالات تحت أرضية خاصة بهم، لا يعرفها أحد، وعجزت عن أن تصل إليها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، رغم عدّة محاولات فاشلة لاختراقها. وبهذه الشبكة، أدار قادة حركة حماس اتصالاتهم السرّية، ونفذوا عمليات المقاومة بعيداً عن أذن جهاز الشين بيت الإسرائيلي وعينه، وكانت المفاجأة يوم السابع من أكتوبر (2023)، مع انطلاق معركة طوفان الأقصى، التي شلت أعصاب جهاز المخابرات الإسرائيلية بالمفاجأة، وضربت قدرات الجيش الإسرائيلي بسرعة التنفيذ.
على مرّ السنين، استطاع رجال المقاومة الفلسطينيون هزيمة ضباط المخابرات الإسرائيلية في أكثر من موقع
ظلت المخابرات الإسرائيلية عاجزة عن اختراق شبكة الاتصالات الداخلية لحركة حماس بعد مرور عدة أسابيع من بدء معركة طوفان الأقصى، إلى أن استعانت بأجهزة مخابرات بريطانيا، وناشدتها المساعدة للوصول إلى عصب التواصل لدى حركة حماس، ومن ثم الوصول إلى الكثير من القيادات الميدانية للحركة.
في البداية، طلبت بريطانيا من إسرائيل أن تفصل الكهرباء بالكامل عن قطاع غزّة، ونفذت إسرائيل الطلب البريطاني فوراً. ثم طلبت من إسرائيل أن تقطع عن قطاع غزة جميع الاتصالات السلكية وغير السلكية، وفرض السكينة المطلقة والهدوء الكهرومغناطيسي التام على كل قطاع غزة بالكامل، وتم ذلك، وانقطعت غزة عن العالم. وراحت أجهزة المخابرات البريطانية تسترق السمع، وتراقب، وتصغي لكل إشارة، وتلاحق الحرارة المنبعثة من أجهزة الاتصالات الفلسطينية السرية الداخلية، وبعد متابعة وملاحقة، تمكنت بريطانيا العظمى من اكتشاف سر المقاومة الفلسطينية، وتحديد المراكز التي تنبعث منها حرارة الاتصال، وبهذا تكون بريطانيا العظمى قد حصلت على المعلومة التي لا تقدر بثمن، وقدمت على طبق من ولاء وخضوع إلى الجيش الإسرائيلي المواقع الدقيقة لشبكة الاتصالات الفلسطينية تحت الأرضية، بما في ذلك مراكز التوزيع الرئيسية لخطوط الاتصال.
تقدّمت القيادة السياسية والعسكرية في إسرائيل بالشكر مرتين، عبر وسائل الإعلام، إلى بريطانيا التي وفرت المعلومة للجيش الإسرائيلي، وحدّدت له نقاط تجميع الاتصالات الفلسطينية، كي يدمرها بالصواريخ الأميركية على رؤوس مئات المواطنين الفلسطينيين الذين انهالت عليهم الأحزمة النارية، وتركتهم شهداء، وأشلاء ممزّقة وجرحى ومفقودين تحت ركام الأماكن المقصوفة.