غزّة لا يرهبها الموت ولا يَثنيها

13 اغسطس 2024
+ الخط -

يتعمّد العدوّ الإسرائيلي قتل المدنيين في قطاع غزّة، بحُجَّة إيوائهم رجال المقاومة، أو بحُجَّة احتماء رجال المقاومة بالمدنيين، لذلك يتعمّد قصف المدنيين أينما حلّوا، وكيفما ارتحلوا، سواء في الخيام، أو في مراكز الإيواء، حيث تتقاسم العائلات الغرفَ في المدارس، ليكون نصيبُ كلّ عائلةٍ غرفةً، ويكون الحمَّامُ العامُّ مُشترَكاً لكلّ النازحين، لتصير شبابيك المدارس حبلَ غسيلٍ لملابسِ النازحين.
في مراكز الإيواء هذه، ووسط الزحام هذا، لا يستطيع رجلٌ غريبٌ عن عائلات النازحين دخول المكان، أو الإقامة فيه، لأنّ وجوده سيكون لافتاً، وهذا ما يعرفه رجال المقاومة، وهم ينأون بأنفسهم عن تجمّعات السكّان، وعن الظهور العلني، الذي سيُعرِّضُهم لقصف الطائرات، بل يحرص رجال المقاومة على الانقطاع عن عائلاتهم وأقاربهم كلّياً كي لا يُعرِّضُوا أنفسهم للكشف، وكي لا يُعرِّضُوا ذويهم للقصف.

عدم هروب المقاومين من أرض المعركة هو الوجع الأول للجيش الإسرائيلي

إضافة إلى استهداف المدنيين في مراكز الإيواء، والتي بلغت 172 استهدافاً حتّى كتابة هذه السطور، يتعمّد العدوّ الإسرائيلي الضغط على المدنيين الفلسطينيين من خلال تهجيرهم من بيوتهم، ولا يُهجّر أهل غزّة بالرجاء والمخاطبات والرسائل السلمية، يُهجّر الناس من خلال أحزمةٍ ناريةٍ، وصواريخَ تُلقى فوق رؤوسهم، وكأنّ القيامة قد قامت، فيضطر من ظلّ في قيد الحياة أن يطلب النجاةَ لنفسه، ولأقرب الناس إليه من الضعفاء، تاركاً متاعَه وأغراضَه وجرحاه أحياناً للمجهول.
ويدرك أهل غزّة أنّ الضغط عليهم وترويعهم وقصفهم بهذا الشكل المميت لا يستهدفهم وحدهم، وإنّما يستهدف الضغط على قيادة المقاومة، كي تخنع لشروط العدوّ إلى طاولة المفاوضات، لتكون لغةُ الغالبية العظمى من الناس في غزّة تقول: دفعنا أثماناً باهظةً، ولم يبقَ لعدوّنا وسيلةٌ لابتزازنا وذبحنا أكثر ممّا فعل، لذلك نحن لسنا مستعدّين لتقبّل خبرِ التسليم بشروط العدوّ لوقف العدوان.
لا يعني خروج المدنيين من بيوتهم تحت قصف الصواريخ المميت الفرار من المعركة، فالمقاومون الفلسطينيون الذين يراقبون نزوح أهاليهم من بيوتهم يتفهَّمون الأمر، ويتحصَّنون خلفَ ما ظلَّ من بيوتِ ذويهم المُهدَّمة، ويحتفظون بمواقعهم المُتقدّمة، ليواجهوا عدوَّهم بما توفّر من سلاح، وبما ملكت أيديهم من قدرات تصنيعيّةٍ للقذائف، وبما مكَّنتهم التجربة من تدبير الكمائن لجيش العدوّ.
عدم هروب المقاومين من أرض المعركة رغم جهنَّم الصهاينة التي تُصَبُّ على رؤوسهم هو الوجع الأول للجيش الإسرائيلي؛ الذي تعوَّد ألا يقاتل في الميدان وجهاً لوجه، وتربَّى على الاقتحام بدباباته، يقتل ويدمّر ويأسر من دون خوف، ليصطدم الجنديُّ الإسرائيلي في أرض غزّة برجالٍ قُدُّوا من صخرٍ، يقتحمون سياج الموت، يُقاتلون بكفاءةٍ عاليةٍ، وبجرأةٍ وشجاعة أدخلتا الرعب في قلوب الجنود الصهاينة. لذلك ترى جنود الجيش الإسرائيلي لا يتوقَّفون عن إطلاق النار في كلّ اتجاه، وفي طول الوقت، وقد صَوَّر لهم الرعبُ أنّ الفلسطيني سيخرج عليهم من حيث لا يحتسبون، فالجندي الإسرائيلي الذي فقد الكفاءةَ القتاليةَ، لا قدرةَ له على الصبر والصمود في مثل مواجهةٍ كهذه، وهو الذي تدرَّب على القتال من داخل الدبّابة أو العربة المُجنزَرة، أو من داخل مقصورة الطائرة، فإذا به يصطدم وجهاً لوجه مع رجالٍ لا يهابون الموت، رجالٍ يُؤثرون المواجهة من مسافة صفر، وهذا الذي فاجأ جيش العدوّ، وجعله يلعن الحرب، ولا يُفكّر إلا في النجاة من جحيم غزّة.
أما الوجع الثاني، الذي هزّ معنويات الجيش الإسرائيلي في أرض غزّة، فيتمثّل بروح المبادرة التي يتحلّى بها رجال المقاومة، وهم يجهّزون الكمائن، ويختارون اللحظة المناسبة للهجوم المفاجئ، وهذا الذي أرهق الجيش الإسرائيلي في غزّة، وجعله يتوقّع خروجَ رجالِ المقاومةِ عليه في كلّ لحظةٍ، ومن خلف كلّ زاويةٍ، ومن تحت شقوقِ الأرض. إنّ هذا الشكل من القتال الجريء، وهذه المواجهة السريعة والخاطفة، التي يبادر إليها رجال المقاومة، شكّلت ضربةً صادمةً لاستراتيجيةِ جيشٍ تعوَّد أن يحتلَّ الأرض من دون أن يدفع الأثمان، وتعوَّد أن يغفو في مواقعه التي احتلَّها آمناً مطمئناً، من دون أن يمسّه الضرُّ، حتّى خرجت عليه غزّة بمقاومتها، وهي تنتقل بالصراع العسكري مع العدوّ الإسرائيلي من الدفاع إلى الهجوم، ومن المراقبة إلى المُباغتة، فالعدو الإسرائيلي لن يمحو من الذاكرةِ تلك اللحظاتِ المفاجئةَ والمرعبةَ من انهيار الجدار الإلكتروني، وانهيار الدفاعات الإسرائيلية، وانهيار المعنويات، لحظةَ اكتشافه رجال غزّة وهم يسيطرون على مقارّ جيشه القيادية، بعد ساعة من بدء معركة طوفان الأقصى.

الانتقام مُكوِّن رئيس في مسار جيشِ الاحتلال الذي تعوَّد أن ينقل معاركه الخاطفةَ إلى أرض "العدوّ"

يجيء قصف المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزّة ضمن استراتيجية الانتقام الصهيوني، والانتقام مُكوِّن رئيس في مسار جيشٍ تعوَّد أن ينقل معاركه الخاطفة إلى أرض "العدوّ"، وتعوَّد أن يُحقّق الانتصار من خلال ترويع المدنيين، وبثّ الرعب واليأس في نفوسهم، وخنق سبل الاستقرار في حياتهم، وهذا ما عجز الجيش الإسرائيلي عن تحقيقه حتّى يومنا هذا، وهذا هو الوجع الثالث للعدوّ. وقد أدرك أنّ مُعظمَ الفلسطينيين في قطاع غزّة مع مواصلة المقاومة، وأنّ حديث الناس في الطرقات، وفي مراكز الإيواء، ومن داخل الخيمة يقول سنحتمل العذاب، سنصمد مهما كانت التضحيات، نحن ظهرٌ لأولادنا الذين يقاتلون عدوَّنا، وإنّنا شعبٌ، لو جهنَّمُ صُبَّت على رأسه، سيظلُّ واقفاً.

3763454C-747B-4CCA-A235-BC13D7519813
3763454C-747B-4CCA-A235-BC13D7519813
فايز أبو شمالة
كاتب وسياسي فلسطيني يقيم في قطاع غزة، عشر سنوات في السجون الإسرائيلية، دكتوراه في الأدب المقارن بين الشعر العربي والشعر العبري.
فايز أبو شمالة