مجلس النواب في ليبيا حل أم مشكلة؟
يعود تاريخ أول انتخابات عامة في تاريخ ليبيا إلى 19 فبراير/ شباط 1952، عندما تم انتخاب 55 عضواً لمجلس النواب تحت إشراف هيئة الأمم المتحدة، وقد رافقت تلك الانتخابات أحداثٌ واتهاماتٌ كثيرة بعدم النزاهة وشراء الأصوات وغيرها. ومع ذلك، أنتجت هذه الانتخابات أول برلمان ليبي، افتتح أعماله في بنغازي في 25 مارس/ آذار من العام نفسه، بحضور الملك إدريس. وظل هذا البرلمان يمارس مهامه إلى أن سيطر معمر القذافي على مقاليد الحكم في 1969، حيث سقط النظام الملكي، وانتهت معه كل المجالس القائمة، المنتخبة والمعينة، وحكم القذافي ليبيا أكثر من أربعة عقود، من دون أن تسمح نظريته "العالمية الثالثة" بوجود المجالس النيابية، حيث "التمثيل تدجيل" و"المجلس النيابي حكم غيابي".
نجحت انتفاضة فبراير، وانتهت تلك الحقبة، وخاض الليبيون أول انتخابات شهدت بنزاهتها الأمم المتحدة، واعتبر ذلك تحولاً معتبراً، خَطَتْ فيه ليبيا أول خطواتها في رحلة تحوّلها الديمقراطي، حيث انتخب المؤتمر الوطني العام، وأثبت الليبيون أنهم قادرون على خوض هذه التجربة الديمقراطية، على الرغم من انقضاء أكثر من ستة عقود على آخر انتخابات تشريعية، وهذا لا ينفي أن عملية الاختيار ما زالت تتأثر بتجاذباتٍ جهوية وقبلية، وهي ثقافة موروثة من تلك الحقبة.
لم تكن ممارسة "المؤتمر الوطني" أعماله سلسة، ولم تكن طريقه معبدة بالورود، فقد واجه صعوباتٍ كثيرة كادت تنهي أول تجربة ديمقراطية في مهدها، ولعل أهم هذه الصعوبات قيام الجنرال خليفة حفتر، في 14 فبراير/ شباط 2014، بانقلاب "تلفزيوني" على هذا الجسم المنتخب، وإعلانه تجميد الإعلان الدستوري، وكأنه استكثر على الليبيين الحرية في اختيار من يمثلهم. وكان يُعوّل في انقلابه هذا على تعاطف الشارع وتأييده من خلال التسويق لفكرة سيطرة الإسلام السياسي على قرارات المؤتمر، إلا أن ذلك الانقلاب قوبل باستهزاء وعدم اكتراث من معظم الليبيين. وفشل حفتر في حشد حلفائه في غرب البلاد، الأمر الذي جعله يغير من تكتيكه، ليتجه إلى الشرق، حيث تمكّن من حشد قواتٍ معتبرة، معتمدا في ذلك على قبائل الشرق التي رأت فيه القوة التي يمكن أن تخلصها من الإرهاب الذي كان يعصف بالمدينة، واستطاع، في الوقت نفسه أيضا، إقناع التيار السلفي بالانضواء تحت إمرته، ناهيك عن كثيرين من بقايا ضبّاط جيش القذافي وجنوده.
الأكثر غرابة أن مجلس النواب استدعى الحكومة للمساءلة، على الرغم من عدم اعتماده الميزانية
في 25 مايو/ أيار 2014، وفي ظل أوضاع أمنية متردّية، أجريت انتخابات مجلس النواب، وكانت محملة بآمال الليبيين في تحقيق التوافق السياسي، وجسْر هوة الخلاف وتقريب وجهات النظر بين الجميع، إلا أن خيبة الأمل لم تغب طويلا، حيث سيطرت على المشهد الليبي من جديد، فخسارة الإسلاميين هذه الانتخابات جعلتهم يطعنون في البرلمان المنتخب، باعتبار أنه لم يحترم الدستور المؤقت، وقد قبلت المحكمة العليا الطعن في دستورية البرلمان، وقضت بحلّه. أصرّ مجلس النواب على عقد جلساته، على الرغم من مقاطعة نوابٍ كثيرين لها، وخضعت لاستفزاز بعض الغوغائيين في الشرق وسيطرتهم، حيث أطلق عليه الليبيون اسم "برلمان بوعكوز"، في إشارة ساخرة إلى ذلك المسنّ الذي يحمل عصاه (عكوزه)، ويجلس أمام مبنى البرلمان، ويسمح بدخول النواب أو يمنعهم، حسب مزاجه أو مزاج من يحرّكه. ولم يعقد البرلمان سوى جلستين مكتملتي النصاب، إحداهما لتقرير المزايا المالية للنواب، والأخرى لرفع سن التقاعد، والذي يستفيد منه كثيرون منهم، وكأن هؤلاء النواب لا يعيشون في ليبيا، ولا يعرفون حجم المشكلات التي يعانيها بلدهم، ونسوا أنهم منتخبون من شعبٍ مثقل بالمشكلات السياسية والأمنية والاقتصادية.
أفضى اتفاق الصخيرات، في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2015، إلى اختيار مجلس رئاسي أنيطت به مهمة اختيار حكومة الوفاق، على أن يعتمدها البرلمان حسب حيثيات الاتفاق السياسي. وحاول فائز السراج، الذي اختير لرئاسة هذا المجلس، أكثر من مرة، الحصول على ثقة البرلمان لاعتماد حكومته، إلا أن الفشل كان حليفه في كل مرة، إذ لم يتجاوز عدد النواب الذين صوّتوا على منح الثقة عدد أصابع اليد الواحدة، في وقتٍ ينصّ فيه الاتفاق السياسي على موافقة ثلتي أعضاء مجلس النواب، أي 119 نائبا، حتى تنال الحكومة الثقة، الأمر الذي جعل المجلس الرئاسي يعتمد في تسيير أعماله على وزراء مفوّضين، يمارسون أعمالهم من دون الحاجة إلى ثقة البرلمان، وبالتالي بعيدا عن رقابته، ما تسبّب في إهدار أكثر من 50 مليارا (حسب تقارير ديوان المحاسبة)، من دون أن يكون هناك أي مردود اقتصادي، أو تحسين خدمات، أو مشاريع تنموية، بل على العكس من ذلك ازدادت الأوضاع سوءاً، وارتفعت الأسعار بشكل غير مسبوق، وتهاوت العملة المحلية أمام العملات الأجنبية، وأصبحت حياة المواطن الليبي موزّعة بين طوابير الغاز والوقود والسيولة، يلفّها ظلامٌ دامسٌ شبه دائم، نتيجة الانقطاع المستمر للكهرباء، على الرغم من ملياراتٍ صرفت عليها، لم يكن لها وجود إلا في تقارير ديوان المحاسبة.
يبدو أن العصا التي يريد مجلس النواب وضعها في دولاب الحكومة متعدّدة الأذرع
ومن المفارقات أن مجلس النواب كثيرا ما تحجّج بعدم شرعية حكومة الوفاق، لأنها لم تنل الثقة منه، في الوقت الذي نسي أو تناسى أنه أيضا فاقد للشرعية، لأن ولايته انتهت في 20 أكتوبر/ تشرين الأول، حيث قرّر التمديد لنفسه، مبرّرا ذلك بأنه "ليس سوى إجراء وقائي من شأنه أن يضع البرلمان في منأىً عن الضغوط خلال المفاوضات التي تجري في الصخيرات"، حسب تصريحه. وبدلا من أن يلعب مجلس النواب الدور المناط به، والوقوف على مسافة واحدة من الجميع، اختار، في مغامرة سياسية، الوقوف ضد الغرب الليبي، واعتبره معقلا للإرهاب، ومنبعا للمليشيات المسلّحة الخارجة عن القانون. ووصل الأمر إلى توجيهه طلبا إلى المجتمع الدولي بالتدخل لضرب هذه المليشيات، بعدما صنّفها مجموعات إرهابية. وقد جعلت كل هذه الأمور نوابا كثيرين يشكلون مجلسا موازيا مقرّه طرابلس، واختاروا رئيسا جديدا للمجلس. وصرح النواب المجتمعون في طرابلس، في تلك الفترة، بأنهم اتخذوا هذه الخطوة لـ"تحرير قرار مجلس النواب من قلة مرتهنة لحفتر ورغباته السياسية".
جاء اختيار حكومة الوحدة الوطنية، برئاسة عبد الحميد الدبيبة، بناء لمخرجات اجتماعات لجنة الحوار السياسي في تونس. وحاولت هذه الحكومة الاستفادة من تجربة الحكومة السابقة في تعاملها مع مجلس النواب، مستفيدة من الظروف التي لم تعد هي نفسها تلك الظروف التي واجهت حكومة الوفاق السابقة، لسببين مهمين: أن وثيقة البرنامج السياسي للمرحلة التمهيدية التي تم التوافق عليها في تونس تمنح قرار منح الثقة للحكومة الجديدة إلى ملتقى الحوار السياسي، في حال عدم الحصول عليها من البرلمان، الأمر الذي أعطى موقفا قويا للحكومة، وجعل النواب يخشون سحب بساط الشرعية من تحت أقدامهم. والسبب الثاني أن الدبيبة استطاع تكوين مجموعة ضغط داخل البرلمان، لأنه ضمن لأفرادها الحصول على حقائب وزارية داخل حكومته، فساعدت هذه الظروف الحكومة على نيل الثقة بالأغلبية من مجلس النواب، وتنفس الجميع الصعداء، واستبشر الجميع خيرا بالتناغم بين الحكومة ومجلس النواب.
استطاع الدبيبة تكوين مجموعة ضغط داخل البرلمان، لأنه ضمن لأفرادها الحصول على حقائب وزارية
ولكن يبدو أن العصا التي يريد مجلس النواب وضعها في دولاب الحكومة متعدّدة الأذرع، فبمجرد إعطائه الثقة للحكومة، استخدم الذراع الآخر لهذه العصا، حيث رفض المجلس اعتماد قانون الميزانية، وسط استغراب الجميع، فكيف تمنح الثقة للحكومة، من دون أن تصادق على الميزانية المقترحة، على الرغم من تعديلها حسب رغبات المجلس في أكثر من مرة، وكان الأمر الأكثر غرابة أن مجلس النواب استدعى الحكومة للمساءلة، على الرغم من عدم اعتماده الميزانية، الأمر الذي وصفه رئيس الحكومة بأنه "كأنك أعطيت سيارة لشخص ما، ومنعت عنه الوقود، ثم تريد التحقيق معه بشأن عدم تحرّكه أو اتجاه سيره". وعلى الرغم من هذا، مثُلت الحكومة للمساءلة أمام مجلس النواب، على الرغم من استفزاز المجلس البائن، حيث إنه اختار تأجيل جلسة المساءلة، بعد حضور الجميع من دون التنسيق معها، الأمر الذي كاد أن يؤدّي إلى مشكلة أخرى، لولا حفاظ الدبيبة على شعرة معاوية بينه وبين مجلس النواب.
والخلاصة أن الأذرع متعدّدة، ومجلس النواب لا يزال مصرّا على استعمالها تباعا، لتعطيل عمل الحكومة، وللتشويش على أي اتفاق سياسي يفضي إلى إجراء الانتخابات في موعدها. ولعل جديدها إصدار قانون لانتخاب رئيس الدولة، من دون أن يصوّت النواب عليه، ومن دون استشارة مجلس الدولة في اعتماد هذه المسودة وفقا للاتفاق السياسي، الأمر الذي يُخشى أن يعود بالعملية السياسية برمتها إلى المربع الأول، وخصوصا أن مجلس الدولة أيضا قد يجد هذه المسوّدة مبرّرا لعرقلة إجراء الانتخابات، لأنه لا إرادة لأيٍّ من أطراف الصراع للتفاهم والوصول إلى كلمة سواء، فحتى اللحظة لا يوجد ما يدفعهم إلى ذلك، فمزاياهم ومرتباتهم وأوضاعهم المترفة لن تجد بيئة أفضل من هذا الانقسام والتشظي. أما من يدفع ثمن هذه المغامرات غير المحسوبة فهو المواطن الليبي.