ما بعد الدخان الأبيض من البرلمان الليبي
أثمرت ثلاثة أيام من المناقشات في قاعة واغادوغو في سرت وسط ليبيا عن اعتماد حكومة الوحدة الوطنية التي عرضها رئيسها، عبد الحميد الدبيبة، والتي انتهت إلى تسمية 35 وزيراً، منهم ستة وزراء للدولة، وخلت من حقيبة وزير الدفاع التي احتفظ بها رئيس الحكومة إلى إشعار آخر، بسبب تدخلات محلية وإقليمية، حسب تصريحاته. تابع الليبيون تلك المناقشات، وكلهم أمل في إنهاء خمس سنوات من التشظّي والانقسام والحروب التي خسروا فيها آلاف الأرواح، فضلاً عن أعداد مهولة من النازحين الذين لا يزالون يقاسون ظروفاً صعبة، بعيداً عن منازلهم التي لم تعد قادرة على إيوائهم. ألقى الانقسام ظلاله على كل نواحي الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، بل وكاد يؤدي إلى انقسام البلاد، وانفصالها إلى الولايات التي سبق أن كافح الأجداد من أجل وحدتها.
وعلى الرغم من كل الصعوبات التي واجهت هذه المناقشات، ولغط كثير دار بشأن آلية اختيار الحكومة، والتي صرح الدبيبة أنها أخذت في الاعتبار التمثيل الواسع لأغلب المناطق الجغرافية، محاولة إرضاء كل الفرقاء، الأمر الذي برّر به العدد المبالغ فيه في عدد الوزارات، واستحداثه وزاراتٍ لا تتناسب مع أن هذه الحكومة ستتولى قيادة مرحلة انتقالية قصيرة، تنتهي في 24 ديسمبر/ كانون الأول المقبل. على الرغم من هذه الصعوبات، إلا أن الدبيبة استطاع، بكل اقتدار، وعلى الرغم من قلة خبرته السياسية، إقناع النواب المجتمعين بقدرة حكومته على قيادة هذه المرحلة، والتعامل مع كل هذه الصعوبات، واستطاع انتزاع الثقة التي كان مصرّاً عليها، وقال مازحاً إنه لن يغادر الجلسة من دون الحصول على الثقة، مضيفاً "تعبنا، ولا أستطيع تقديم حكومة مصغرة جديدة في عشرة أيام". ويبدو أنه استفاد من أخطاء سلفه، فايز السراج، والذي فشل في الحصول على ثقة مجلس النواب، الأمر الذي أدّى إلى تحوّل حكومته (الوفاق) إلى طرف في الصراع القائم، ومارست أعمالها أكثر من خمس سنوات بوزراء مفوضين، من دون موافقة المجلس، وبالتالي شابتها عمليات فساد ووساطة وإهمال كثيرة، من دون أن تخضع لأي مسألة قانونية أمام الجسم التشريعي الذي لم يعترف بها.
ومن الجدير بالذكر أن حضور 132 نائباً في جلسة واحدة للبرلمان لم يحدث منذ أكثر من خمس سنوات، حيث عجز البرلمان عن الحصول على أي نصابٍ قانونيٍّ للاجتماع منذ انتخابه، عدا جلسات محدّدة، ناقشت في أغلبها المزايا المالية للنواب، والتي حرص الأغلبية على حضورها لتمرير هذه المزايا. ولم يقتصر الأمر على عدم حضور الأعضاء واختلافهم الدائم، بل وصل الأمر إلى انقسامه هو أيضاً بين الشرق والغرب، وأصبح جزءاً من المشكل الليبي، وفي أحيان كثيرة، هو المسبب الرئيسي له.
مجرّد توحيد المؤسسات، والتحضير لانتخابات عامة في موعدها المحدّد سيكون إنجازاً معتبراً.
وفي خطوةٍ لم يألفها الليبيون، وقد تعودوا على أن كل مسؤول يرفض تسليم منصبه لغيره، ويحتمي بمليشياته، ويستمر في كرسيه بقانون القوة، رحّب معظم أعضاء المجلس الرئاسي السابق بهذه الخطوة، هنأ السراج الحكومة الجديدة، وأبدى استعداده لتسليم المهام والمسؤوليات للحكومة الجديدة. وهنأ نائب رئيس المجلس الرئاسي، أحمد معيتيق، الدبيبة بنيل حكومته الثقة من مجلس النواب، وتمنى له التوفيق في مهامه. وبالمثل، هنأ وزير الداخلية في حكومة الوفاق، فتحي باشاغا، الحكومة، في تغريدة على حسابه في "تويتر"، وفيها "يوم تاريخي تجسّدت فيه اللحمة الوطنية، والحرص على وحدة ليبيا، وإنهاء الانقسام وميلاد حكومة وطنية نالت الثقة من مجلس النواب في مظهر ديمقراطي وحضاري".
نجاح الدبيبة في أول خطوة على سلم أولويات الحكومة التي وعد الليبيين بها، انتزاع الثقة من مجلس النواب، من دون أن يضطر إلى اعتمادها من لجنة الحوار (بديل آخر وضعته بعثة الأمم المتحدة)، لا يعني أن الطريق أصبح معبّداً أمامه، وأنه سيصعد باقي خطواته بسلاسة، فمسار حكومته سيواجه مطبات وعراقيل كثيرة تراكمت نتيجة ضعف حكومات متتالية وانقسامها، وتدخل أجنبي لم يقف عند حد إملاء الشروط، بل وصل إلى تدخلات مسلحة على الأرض.
يدرك الجميع أن وعود رئيس الحكومة الليبية الجديدة، عبد الحميد الدبيبة، التي قطعها على نفسه، أمام مجلس النواب وأمام لجنة الحوار، أن الإيفاء بها يحتاج سنوات، ولن تكون مدة العشرة أشهر كافية في أفضل الأحوال وأحسنها، إلا أن أغلب الليبيين يهتمون بملفين مهمين يمسان حياتهم اليومية، الاقتصادي الخدمي والأمني، فتدهور قيمة العملة المحلية ساهم في موجة غلاء غير مسبوقة، وصلت إلى درجةٍ عجز فيها كثيرون عن الحصول على حاجاتهم الأساسية المتعلقة بالمأكل والمشرب. أما غيرها فأصبح نوعاً من الترف، لا يحلمون به ولا يتطلعون إليه، وجزء كبير منهم يخوض معركة بقاء يومية في وجه الأزمات اللامتناهية، ابتداء من انقطاع الكهرباء إلى توالي أزمات شحّ الوقود إلى تدنّي الخدمات الصحية إلى انتشار ملحوظ في فيروس كورونا الذي حصد مئات الضحايا، في ظل عجز غريب وغير مبرّر من حكومةٍ صرفت المليارات للحد من انتشاره، فضلاً عن التهريب الذي أصبح مهنةً ترعاها المجموعات المسلحة، وتتخذها من مصادر تمويلها أمام مرأى الأجهزة المناط بها مكافحته ومسمعها.
ملفّات كثيرة تنتظر حكومة الدبيبة، والوضع المتأزم في البلاد ينتظر الحسم، والتحدّيات كثيرة
والملف الآخر الذي لا يقل أهمية هو المتعلق بالتدخل الخارجي المباشر في الشأن الليبي، وأدّى، فيما أدّى إليه، إلى وجود أكثر من 20 ألف مرتزق، وأكثر من 20 قاعدة عسكرية، واتفاقيات عسكرية من الصعب التخلص من تبعاتها في المستقبل القريب، تدخل خارجي وصفه الدبيبة بانتهاك للسيادة الوطنية، وقال إن المرتزقة "خنجر في ظهر ليبيا". ولكنه أكّد ضرورة التحلّي بالحكمة في معالجة هذا الملف، والتواصل مع الدول التي لديها "وكلاء في ليبيا". هذا الملف الذي لن يكون الخوض فيه سهلاً، خصوصاً بعد تكليف امرأة وزيرة خارجية (لأول مرة في تاريخ ليبيا)، ليست لديها الخبرة في المجال السياسي، ولم يسبق لها أن مارست العمل الدبلوماسي، ما يجعل المهمة غير سهلة، وتحتاج إلى كثير من الحنكة والخبرة في إدارة هذا الملف. ولكن إذا ما نجحت الوزيرة، نجلاء المنقوش، في اختيار المساعدين الأكفأ وذوي الخبرة، والابتعاد عن المحاصصة والقبلية في هذه الاختيارات، ستكون قادرةً على الوصول إلى تفاهماتٍ مع الدول النافدة والمتدخّلة في الشأن الليبي، لا سيما أن الأمم المتحدة والدول راعية الاتفاق السياسي والعسكري ستكون داعمة لهذه الجهود، بعد أن رحبت جميعها بهذه الخطوة، حيث تقدّم السفير الأميركي لدى ليبيا، ريتشارد نولارند، بتهنئة الحكومة الجديدة، مشدّداً على ضرورة أن تمهد الطريق أمام انتخابات ديسمبر/ كانون الأول. وفي سياق متصل، رحّب الاتحاد الأوروبي بالحكومة الجديدة، مؤكّداً دعمه لها في تحقيق أهدافها المتمثلة في إرساء السلام والاستقرار.
ملفّات كثيرة تنتظر حكومة الدبيبة، والوضع المتأزم في البلاد ينتظر الحسم، والتحديات كثيرة، والمتربصون لإفشال هذا الاتفاق، والمسكونون بهاجس السلطة، لن يستسلموا ببساطة. ومع أن نيل الثقة من البرلمان خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح، إلا أن ذلك لا يعني نهاية الأزمة، فهي تمتلك جذوراً متشعبة، والعمل لن يكون سهلاً. ولكن يبقى أن ما لا يدرك كله لا يترك كله، فمجرّد توحيد المؤسسات، والتحضير لانتخابات عامة في موعدها المحدّد سيكون إنجازاً معتبراً.