لبنان: ضرب حجر الدومينو

18 مارس 2023

رياض سلامة (في السيارة) يصل إلى وزارة العدل في بيروت للإدلاء بشهادته (16/3/2023/الأناضول)

+ الخط -

في 2 مارس/ آذار 2009، افتتح حاكم المصرف المركزي اللبناني رياض سلامة تداولات بورصة نيويورك الأميركية، بقرع جرسها ضمن فاعليات "يوم أسواق المال اللبنانية". وهو حدثٌ يُصنّف "امتيازاً" لكل متعامل بالشؤون المالية. حينها، وعلى هامش هذه الخطوة، اعتبَر سلامة أن "الاستقرار الذي يشهده لبنان (بعد الأزمة المالية العالمية في عامي 2008 و2009) ليس وليد الصدفة، بل ثمرة المثابرة والعمل الدؤوب لبناء نموذج يوحي بالثقة". أما أهم ما قاله في كلمته: "النموذج المالي اللبناني كما تم تصميمه على مرّ السنين لا يجيز أي تجاوزات في الاستدانة أو في اكتساب مشتقات سامّة، وبالتالي سيبقى لبنان في منأى عن هذه الأزمة، ما دامت الأوضاع السياسية والأمنية فيه تتسم بالاستقرار".

في 14 مارس/ آذار 2023، نقلت وكالة رويترز في تقرير لها عمّن وصفته بـ"مصدر مطلع على علاقات سلامة السياسية"، قوله: "إنه دومينو. إذا سقط، يسقط كل شيء". ونسبت إلى مصدر آخر وصفته بـ"السياسي"، كشفه أن "(رئيس حكومة تصريف الأعمال تجيب) ميقاتي لم يعد يدعمه. لقد انتهى كل شيء بالنسبة لرياض سلامة".

بالفطرة السياسية والإنسانية، "يحسّ" الفرد والمجتمع بضعف أي شخصٍ أو مؤسسةٍ فيه، عن طريق الربط الغرائزي لتسلسل الأمور. وما لم يحدُث "أمرٌ ما" يقلب المسار المحتّم، فإن سلامة بات أقرب إلى الخروج من حاكمية مصرف لبنان. لا يتعلق الأمر بقرب انتهاء ولايته في يوليو/ تموز المقبل، ولا في عدم وجود نيّة لتجديد ولايته ست سنوات جديدة، بل بطيّ صفحة حقبة رافقت مرحلة ما بعد انتهاء حرب لبنان (1975 ـ 1990).

خلال السنوات الأربع الماضية، بالتحديد منذ صيف 2019، أي قبل تظاهرات 17 أكتوبر/ تشرين الأول من العام عينه، بدأت أولى مراحل تدهور الوضع المالي اللبناني. لم يكن هناك وباء كورونا بعد وما أفرزه من إغلاقاتٍ ضربت النشاط الاقتصادي، ولا غزو روسي لأوكرانيا وما أنتجه من ارتفاعاتٍ في الأسعار وإعاقة سلسلة التوريد العالمية.

شكّلت هذه السنوات نهاية مسار سلامة، وحكماً، أولى المسامير في نعش النهج الاقتصادي ـ السياسي ـ الاجتماعي، الذي طغى في بيروت عقب انتهاء الحرب. الجميع، سياسيون واقتصاديون وأمراء حرب ورجال دين، من دون استثناء، شاركوا سلامة في الاستفادة من هذه الفترة. والجميع، تقريباً، ما عدا الذين يخشون الانقلاب عليه صراحةً، خوفاً من انكشاف أسرار مالية ما، تخلوا عنه. لم يكن الرجل مخطئاً في قوله إنهم يريدونه "كبش فداء"، لكنه، في الوقت نفسه، إما لا يريد الإفصاح عما لديه أو أنه مرتعبٌ من فكرة اغتياله إذا أقدم على ذلك. في الحالتين، تتجلّى حقيقة لبنان المالية في زمن ما بعد الحرب: اقتصاد مالي مبني على تشريع كل عملية احتيال وغسل أموال وتهرّب ضريبي ـ جمركي وغيرها من الموبقات.

لم يكن أحد، قبل أربع سنوات، ليعتقد أن من الممكن المسّ بسلامة، فقد شكّل "ظاهرة" من ظواهر "المعجزة المالية اللبنانية"، التي في الواقع ليست موجودة بالشكل الذي يجري ترويجه. الاقتصاديات المناطقية مبنية على أسس السوق الحرّ المتفلت من الرقابة. غالبية التحويلات المالية إلى البلاد، وإلى خارجها، لا يجري التصريح عنها، بل تسهيل عملها على الخطّين. الهندسات المالية أخّرت كل ما كان "مقدّراً" مالياً، لكن قدرها، في النهاية، كان الوصول إلى الحائط المسدود.

في سير الأمور، انتهى رياض سلامة. ربما قد يأخذ معه الجميع على قاعدة "إن غرقتُ، فلن أغرق وحدي". وهو لمّح إلى ذلك مراراً، حين تحدّث عن مغادرة لبنان بعد انتهاء ولايته في الحاكمية، معتبراً أنه سيستطيع إقناع المحققين الأوروبيين ببراءته. وهي ترجمة لمفهوم "سأتكلم". إذا كسر سلامة الـ"أوميرتا" ستكون سابقة في لبنان، صقلية الحقيقية، المعتاد على إخراس كل من ينوي التفوّه بحرف يُفشي سرّاً. اغتيالات العقود الأخيرة دليلٌ على ذلك.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".