كل هؤلاء المطبّعين بيننا!
عندما وقّع المغرب نهاية العام الماضي (2020) اتفاق التطبيع مع إسرائيل، تحت إشراف إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، حاولت السلطات المغربية أن تسوق ذلك الاتفاق على أنه مختلف تماماً عن كلّ الاتفاقات التي وقعتها دول عربية مطبّعة مع الكيان الصهيوني. وصدرت تصريحات رسمية عن مسؤولين مغاربة تؤكد أنّ الأمر لا يتعلق بـ"التطبيع" كما هو معروف في الشرق العربي، وإنما باستئنافٍ لنوعٍ من العلاقة الإنسانية ما بين المغرب وإسرائيل التي يعيش فيها نحو مليون يهودي من أصول مغربية، أغلبهم اختاروا طوعاً في ستينيات القرن الماضي هجرة "أرض الأجداد" والاستقرار في "أرض الميعاد" على حساب سكان الأرض الفلسطينيين الذين إما قتلوا أو هجّروا أو ظلوا يعيشون مواطنين من درجة ثانية في دولةٍ عنصريةٍ ينصّ دستورها على أنّها "دولة يهودية". كما صدرت تصريحاتٌ تنفي أن يكون الاتفاق المغربي الإسرائيلي جزءاً من "اتفاقات أبراهام" المندرجة تحت ما كانت تسمّى "صفقة القرن" التي كان عرّابوها يقولون إنّها تبادل لـ "السلام مقابل السلام" وانخرطت فيها دولٌ عربيةٌ لا حدود لها مع إسرائيل، ولم يسبق لها أن خاضت حروباً ضد إسرائيل، مثل الإمارات والبحرين والسودان. التبرير الثالث الذي حاولت السلطات المغربية أن تسوق به اتفاقها مع الدولة العبرية أنّ في الاتفاق خدمة للمصلحة الوطنية المغربية، في إشارة إلى مقايضة ربط علاقات مع إسرائيل مقابل اعتراف الإدارة الأميركية السابقة بسيادة المغرب على الصحراء المتنازع عليها مع جبهة بوليساريو، المدعومة من الجزائر، وصدرت آنذاك تطميناتٌ بأنّ الاتفاق لا يستهدف الجزائر. وأخيراً، ولرفع الحرج الذي سبّبه ذلك الاتفاق، بالنسبة لرأس الدولة في المغرب الذي يرأس لجنة القدس، وللحكومة التي كان يقودها حزب إسلامي، تضاعفت التصريحات والبيانات أنّ المغرب الرسمي يضع القضية الفلسطينية في مقدمة أولوياته القومية. ووجهت الدعوة رسمياً، وبرعاية من العاهل المغربي، لقيادة حركة حماس الفلسطينية، للتأكيد على استمرار الخط المغربي الداعم للقضية الفلسطينية.
داخل المغرب تمت مواجهة كلّ حركات الاحتجاج ضد اتفاقات التطبيع بالمنع والقمع، ليظهر للعالم أنّ الاتفاق لا يواجه أيّ اعتراض شعبي داخل المجتمع المغربي
كلّ هذه التصريحات والتبريرات كانت جزءاً من حملة إعلامية رسمية ضخمة، قادتها السلطات المغربية الرسمية لترويج اتفاقها مع الكيان الصهيوني. وفي المقابل، وداخل المغرب تمت مواجهة كلّ حركات الاحتجاج ضد تلك الاتفاقات بالمنع والقمع، ليظهر للعالم أنّ الاتفاق لا يواجه أيّ اعتراض شعبي داخل المجتمع المغربي. لكن بعد سنة من الاتفاق، ما الذي حدث؟ حدث أمران. الأول، استمرار حركة المقاومة الشعبية المغربية للتطبيع، ممثلة في حركات ووقفات الاحتجاج التي تشهدها عدة مدن وقرى مغربية عند كلّ مناسبةٍ تستدعي التذكير بالموقف الشعبي المغربي من نصرة القضية الفلسطينية. وفي الوقت نفسه، تضاعف نشاط المجتمع المدني المناهض للتطبيع من خلال البيانات والفعاليات التي ينظمها للتحذير من خطورة التطبيع على تماسك المجتمع المغربي. كذلك، ظهرت مبادرات رمزية أبدعها ناشطون على مواقع التواصل، للتعبير عن رفض المجتمع المغربي التطبيع، من قبيل مبادرة تطهير الأماكن التي زارها ممثل الدولة العبرية في المغرب من "دنس" وجوده فيها. وكلّ هذه الأحداث النابعة من عمق المجتمع المغربي، وبطريقةٍ تلقائيةٍ، وفي تحدٍّ لقرارات المنع الرسمية، غير المعلنة، لكلّ مناهضة أو معارضة للتطبيع أو الاحتجاج عليه أو التنديد به، تجسّد حقيقة الرفض الشعبي المغربي للتطبيع، وهذا موقفٌ متجذّر داخل المجتمع وبين شرائحه الشعبية، وهو موجود ومستمر منذ عدة عقود، وسيبقى قوياً ومستمراً، على الرغم من كلّ محاولات المنع والقمع الرسمي، لأنّه مبنيٌّ على قيمٍ هي من صميم إيمان المغاربة بعدالة القضية الفلسطينية، وبرفضهم الفطري للظلم الذي تجسّد السياسات الصهيونية الاحتلالية والعنصرية أبشع صوره في عالمنا الحاضر.
بموازاة الهرولة الرسمية نحو التطبيع، كان الوجه البشع للتطبيع ما كشفت عنه نخبٌ محسوبةٌ على مجالات الثقافة والإعلام والفن
الحدث الثاني الذي كشف عنه هذا التطبيع هو الوجه البشع للمطبّعين المغاربة داخل الأوساط الرسمية، وبعض الأوساط المحسوبة على الإعلام والثقافة والأعمال، فما إن وقّع المغرب رسمياً على اتفاق التطبيع حتى نسي الدبلوماسيون المغاربة، وفي مقدّمتهم رئيس الدبلوماسية المغربية، ناصر بوريطة، تبريراته بالأمس بأنّ الأمر لا يرقى إلى "تطبيع"، وإنما استئناف لعلاقات تاريخية، حتى أصبحنا أمام ترسانةٍ جديدةٍ من المصطلحات التي تتحدّث صراحة عن"العلاقات الإستراتيجية" و"الشراكة الإستراتيجية" و"التفاهم الكامل". وأخيراً، وليس آخراً، عن "الزيارة التاريخية" لوصف زيارة وزير دفاع الكيان الصهيوني، بني غانتس، إلى المغرب، واعتبار "الاتفاق الأمني" الذي تم توقيعه مع إسرائيل، بمناسبة هذه الزيارة، بمثابة انتصار كبير سيعطي للمغرب تفوّقاً استراتيجياً في محيطه الإقليمي. وبموازاة هذه الهرولة الرسمية نحو التطبيع، كان الوجه البشع للتطبيع ما كشفت عنه نخبٌ محسوبةٌ على مجالات الثقافة والإعلام والفن، وأغلب وجوه هذا التطبيع من الفاشلين في مجالاتهم أو أصحاب حالات نفسية تستدعي علم النفس لفهم (وتفسير) حالات الابتهاج المرضي التي تعبّر عنها ملامحهم في صورهم التذكارية مع ممثل الكيان الصهيوني في الرباط، أو في أثناء زياراتهم دولة الاحتلال العنصرية، أو من خلال تدويناتهم المستفزّة للفت الانتباه إلى ما يرتكبونه من جرائم لا يملكون الأهلية العقلية لاستيعاب مدى فظاعتها وقذارتها.
وسواء تعلق الأمر بالموقف الرسمي الذي يحاول أن يبرّر التطبيع بالمصلحة العليا للمغرب، أو بالمواقف التافهة والبهلوانية للمطبّعين الجدد، التي تحاول طمأنة النفوس وتجميل التطبيع، فإنّ خطورة هذا السرطان لن تظهر اليوم، وإنّما بعد فوات الأوان. ولنا في الدول التي سبقت المغرب إلى التطبيع أكبر دليل حيّ على أنّ الكيان الصهيوني لا تهمّه سوى مصلحته هو بالدرجة الأولى، وأينما وضع قدمه إلّا وسبقته أطماعه الانتهازية والأنانية، وخططه الجهنمية لبثّ التفرقة وزرع الفتن وشقّ الصفوف وإشعال الحروب وبثّ الخراب والدمار، ونشر الفساد وتدمير القيم التي تشدّ لحمة المجتمعات وتقوّي شوكة الشعوب. ما يوصف اليوم بعلاقات استراتيجية وزيارات تاريخية واتفاقات غير مسبوقة قد يصبح غداً أخطبوطاً يمزّق المنطقة، ويستغل مقدّرات شعوبها ويتحكّم في سياساتها، مستغلاً حالة الانهيار التي تعيشها والخلافات التي تمزّق دولها، فالعقيدة الصهيونية تقوم على تفوّق الفكر الصهيوني، وتخدم هيمنته على شعوب العالم وسيطرته على مقدّراته لخدمة فكرها الديني العنصري. مستقبل منطقتنا المغاربية اليوم على المحكّ، والآمال معقودة على الرفض الشعبي للتطبيع بكلّ أشكاله، تماماً كما حدث ويحدث يوميا في مصر والأردن، حيث يتصدّى الشعبان، المصري والأردني، منذ عدة عقود لكلّ أنواع المخططات الصهيونية، لأنّهما يعرفان أنّ من سيدفع الثمن مستقبلاً هي الشعوب، عندما لا تتحمّل مسؤولياتها التاريخية في محاربة سرطان التطبيع.