قرار تاريخي بخصوص فلسطين
القرار الذي تبنّته الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم الجمعة الماضي (30/12/2022)، تاريخي، لأنه سيعيد تسليط الضوء على الاحتلال الإسرائيلي وانتهاكاته اليومية لحقوق الشعب الفلسطيني التي طبّع معها العالم، حتى أصبحت مجرّد تفاصيل صغيرة في نشرات الأخبار على وسائل الإعلام العالمية. لذلك لم تول وسائل إعلام غربية كثيرة القرار أهمية كبيرة، ليس فقط لأنه صادر عن مجلس الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تعدّ بمثابة غرفة تسجيل لا قيمة لما يصدُر عنها، ولكن لعدم لفت الاهتمام إلى ما قد يترتّب عن هذا القرار من انعكاساتٍ سلبيةٍ على وجود كيان عضو داخل هذا المجلس، يقوم على احتلال حق الشعب الفلسطيني واغتصابه، في خرقٍ سافر لكل المبادئ التي يقوم عليها هيكل الأمم المتحدة منذ تأسيسها قبل 77 سنة. ولقياس مدى أهمية هذا القرار، تجب قراءة رد الفعل الإسرائيلي الذي جاء على لسان رئيس الحكومة الجديد القديم بنيامين نتنياهو، عندما وصف القرار الصادر عن الدول التي صادقت عليه، ومن بينها دول تعتبرها حكومته صديقة لكيانه، بـ"الحقير"!
يتعلق الأمر بالقرار الذي يطلب من محكمة العدل الدولية إصدار فتوى تعرّف كُنه الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وتضع الآثار المترتّبة على انتهاكاتها المستمرّة منذ عقود لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير. وتكمن أهمية القرار في أنه سيعيد النقاش بشأن الاحتلال الإسرائيلي إلى المربع الأول، إلى نقطة البداية لرفع كل أشكال التزييف والتزوير وتمويه الرأي العام العالمي حول واحدةٍ من أكثر القضايا عدالةً في تاريخنا المعاصر، وهي القضية الفلسطينية، ويلقي الضوء من جديد على أكبر ظلم تاريخي تعرّض له شعب في عصرنا الحالي وما زال يعاني من تبعاته ويقدّم التضحيات الجسيمة يوميا من أجل التصدّي له. فهذا القرار هو بمثابة تصحيح للخطأ التاريخي الذي وقع في غفلةٍ من العالم، عندما جرى تهريب النقاش خلسةً في 1991 داخل مقرّ الجمعية العامة للأمم المتحدة لإلغاء قرارها المعلن في 1975، ووصف "الصهيونية" بأنها إيديولوجية عنصرية. ورمزية هذا القرار تكمن في الإجماع الكبير الذي حظي به داخل أكبر مجمع أممي عالمي، عندما صوّتت لصالحة 87 دولة، بما فيها دول صديقة ودول مطبّعة مع الكيان الصهيوني، فيما عارضته 26 دولة فقط، وامتنعت 53 عن التصويت، وهو موقف ينم عن حياد من يحسّ بالحرج في الاصطفاف ضد قرارٍ يعتبره سياسيا وأخلاقيا عادلا، كونه يطلب من أعلى محكمة أممية وضع تعريفٍ لمفهوم الاحتلال في زمن اختلطت فيه الأخلاق والمبادئ بالمصالح، إلى درجة تساوى فيها الجلاد مع الضحية.
أكثر من 18 سنة وما زال جدار الفصل العنصري الإسرائيلي قائما ويتمدّد، بل وتحول إلى قوانين وتشريعاتٍ تبرّر سياسات الأبارتهايد والتمييز
ولإدراك أهمية هذا القرار وأبعاده المستقبلية التي تشكّل خطورة على وجود الاحتلال الإسرائيلي، تجب العودة إلى قراءة ماهية الفتوى المطلوبة من محكمة العدل الدولية، والتي صيغت في ستة أسئلة رئيسية، تختزل عمر هذا الاحتلال وتاريخ انتهاكاته الطويل: "ما هي الآثار القانونية الناشئة عن انتهاك إسرائيل المستمر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير؟ وعن احتلالها طويل الأمد للأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 واستيطانها وضمّها لها؟ بما في ذلك التدابير الرامية إلى تغيير التكوين الديمغرافي لمدينة القدس الشريف وطابعها ووضعها؟ وعن اعتمادها تشريعات وتدابير تمييزية في هذا الشأن؟ وكيف تؤثر سياسات إسرائيل وممارساتها المشار إليها على الوضع القانوني للاحتلال؟ وما هي الآثار القانونية المترتبة على هذا الوضع بالنسبة لجميع الدول والأمم المتحدة؟".
وطلب المصادقون على القرار أن تأتي الفتوى القانونية المطلوبة مطابقةً مع "قواعد القانون الدولي ومبادئه، بما في ذلك ميثاق الأمم المتحدة، والقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان وقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة ومجلس حقوق الإنسان ذات الصلة وفتوى المحكمة المؤرّخة في 9 يوليو/ تموز 2004". والفتوى المشار إليها هي المتعلقة بجدار الفصل العنصري الذي أقامته إسرائيل داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وقالت عنه تلك الفتوى إنه مخالف للقانون الدولي، وطالبت الكيان الصهيوني بوقف البناء فيه، وهدم ما تم بناؤه، ودفع تعويضات لكل المتضرّرين بمن فيهم القاطنون في القدس الشرقية المحتلة وما حولها.
اعتراف من أغلب الدول التي صوّتت لصالح القرار بأن الوجود الإسرائيلي فوق الأراضي الفلسطينية "احتلال يقوم على سياسة الفصل العنصري"
وقد يقول قائل إن هذه الفتوى مرّ على صدورها أكثر من 18 سنة وما زال جدار الفصل العنصري الإسرائيلي قائما ويتمدّد، بل وتحول إلى قوانين وتشريعاتٍ تبرّر سياسات الأبارتهايد والتمييز والفصل العنصري، لكن ما يعطي لهذه الفتوى الصادرة عن أعلى هيئة قضائية دولية أهميتها أنها تُسقط كل شرعية، مهما طال الزمن، عن هذا الجدار وما ترتب ويترتب عنه مستقبلا من آثار سلبية طاولت الحق الفلسطيني. وهنا أهمية هذه المعارك القانونية التي يخوضها الفلسطينيون، وهي لا تقلّ أهميةً عن المقاومة الباسلة التي يقودها الشعب الفلسطيني البطل يوميا تحت كل أشكال النضال المتاحة له دفاعا عن حقّه في تقرير مصيره. وإذا كانت المعركة التي يخوضها الشعب الفلسطيني يوميا على الأرض معركة وجود، فإنها في المحافل الدولية هي معركة الشرعية الدولية والقانون الدولي ضد الذين يعتدون وينتهكون القانون والشرعية. وقد أظهر التصويت داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة على طلب الفتوى الجديدة تحوّلا في موازين القوى لصالح الحق والعدل ومبادئ القانون الدولي التي ستنتصر في النهاية، مهما طال الزمن أو قصر، لأن قوة الحق والقانون قادرة على الإنصاف وإعادة الحقوق لأصحابها الشرعيين مهما طال الزمن.
مجرّد قبول التصويت على طلب الفتوى من أعلى هيئة قضائية دولية هو بمثابة اعتراف رسمي من أغلب الدول التي صوّتت لصالح القرار بأن الوجود الإسرائيلي فوق الأراضي الفلسطينية هو "احتلال يقوم على سياسة الفصل العنصري"، وفي هذا إدانة واضحة لهذا الكيان تبشّر بمنعطف هام في مسيرة النضال الفلسطيني من أجل تقرير مصيره. فبالرغم من مرور سبعين سنة على قيام الكيان الصهيوني، وأكثر من خمسين سنة على احتلاله غزّة والضفة الغربية والقدس الشرقية لم ينجح في فرض هيمنته على الشعب الفلسطيني المقاوم، وما تشكيلة الحكومة الإسرائيلية الجديدة المكوّنة من عنصريين ومتطرّفين، بل وإرهابيين، سوى عودة إلى الوراء، إلى بدايات وجود هذا الكيان الذي أسّسته منظمات إرهابية صهيونية، بتواطؤ مع قوى استعمارية في بداية القرن الماضي، فالمقاومة الفلسطينية التي أصبح مطبّعون كثيرون في منطقتنا العربية يستخفّون بها، تأتي أكلها مع مرور الوقت. وبعد أكثر من خمسين عامًا على احتلال غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية بالقوة، لم يعد من الممكن اعتبار النظام العسكري الإسرائيلي السائد هناك على أنه احتلال فقط، وإنما أصبحت منظمات حقوقية عالمية كثيرة تستخدم مصطلح الأبارتهايد لتسميته. ولا يتعلق الأمر هنا بتغيير في المفاهيم والمصطلحات فقط، وإنما في ما يترتب عن ذلك من تبعاتٍ قانونيةٍ ستأخذ بها محكمة العدل الدولية عند إصدارها فتواها المنتظرة، فالاحتلال والاستيطان مهما طالا لهما ثمن سياسي وأخلاقي كبير، ولا يكفي أن حلفاء هذا الاحتلال استسلموا له، وبعض الدول العربية هرولت إلى التطبيع معه، ليفلت من العقاب، فحقوق الشعوب المناضلة لا تسقط بفعل الزمن، وكما يقول المثل المأثور "ما ضاع حقّ وراءه مُطالب".