في تذكّر "النقّاد"
لم تحظ مجلة "النقّاد" التي أصدرها رياض نجيب الريّس (1937 – 2020)، الراحل نهاية الأسبوع الماضي، من الكتّاب الذين تتبّعوا تجربته الطويلة، بالإكتراث الذي تستحقّه، على غير ما فعلوا بصدد "الناقد" التي يصحّ القول إنها كانت الأشجع والأجرأ (والأكثر أناقة) بين الدوريات الثقافية العربية منذ عقود، ثم لم يتكرّر مثلها، فكان توقّفها في العام 1995 بعد سبع سنواتٍ من انتظام صدورها حدثا مؤسفا عن حق، وهي التي كانت محظورةً من دخول عدة بلدان عربية، ولا ينسى صاحب هذه المقالة غصّةً حادّةً كانت تغشاه لمّا كان يشتري العدد الشهري من "الناقد" في عمّان، عندما يُصادِف، غير مرّة، أن الرقيب نزع منها صفحاتٍ... تالياً، في العام 2000، يبادر الريّس إلى إصدار مجلةٍ أسبوعيةٍ من نوعٍ آخر، "كشكولية"، من 40 صفحة، تجتمع فيها أخبارٌ وفيرةٌ، ومقالاتٌ وتعليقاتٌ وبورتريهاتٌ وعواميدُ واقتباساتٌ وإضاءاتٌ على كتبٍ جديدةٍ، عربيةٍ وأجنبية، وباستثناء موادّ خاصة ربما أقلّ من عدد أصابع اليد الواحدة، جميع ما فيها منتقى من عشرات الصحف والدوريات العربية والأجنبية والإسرائيلية. فتكون مطالعتك المجلة وجبةً أسبوعيةً متنوّعة المذاقات والأمزجة، وطوافا في السياسة والثقافة والاقتصاد، غير أن عملية الإختيار والإنتقاء، المُجهِدة، تنهض على عامليْ الجاذبية والأهمية، مع إيقاع المادّة المكثفة، القصيرة، ذات الجمل البرقية، والخالية من ثقل الدم، والبعيدة عن المطلقات والأفكار الكبرى. ولافتٌ أن آخر صفحات المجلة كانت للكلمات المتقاطعة، المسليّة (والمفيدة؟)، وكأن رياض الريّس أراد في هذا أن يُزجي تلويحة وداعٍ لعُرفٍ استقرّ عقودا في مطبوعات الصحافة، قبل أن يموت، ولم يعد أحدٌ يستأنس ضرورةً له في زمن الإنترنت وصحافة المواقع الإلكترونية.
رياض نجيب الريّس صحافي قبل أي شيء، كما ظل يلحّ في وصف نفسه، ولا يحسُن النظر إلى تجربة "النقّاد" قصيرة العمر، نحو أربع سنوات، (2000 – 2003)، من مدخل المقارنة مع "الناقد"، ولا مع النجاح اللافت لدار رياض الريّس للكتب والنشر، في إصدارها عديدا من الكتب والأعمال الأدبية والفكرية الجذّابة. إنها مجلةٌ أسبوعيةٌ لا تقارَن إلا بمثيلاتٍ لها، والبحث عن هذه المثيلات، منذ صارت الصحافة في البلاد العربية قبل أزيد من قرن، متعب. وفي الغالب لن يُصادف من يبادر إليه مجلةً شبيهةً بالأناقة التي كانت عليها "النقّاد"، حيث الرسوم الرائقة التي أبدعها صديقنا حسن إدلبي (صاحب رسوم الوجوه المميزة)، وحيث الحسّ التحريري الذي يتوسّل الحذاقة في العنوان الموحي، والشديد الإقتضاب، وبناء الخبر أو التعليق المتخفّف من الحشو والإسهاب والإطناب والثرثرة والإسترسال في معلوماتٍ ذائعة، وغير ذلك من أعطابٍ ما زالت حاضرةً في بعض صحافاتٍ عربيةٍ في القرن الحادي والعشرين.
قال رياض نجيب الريّس إنه في "النقّاد" جرّب أن يجعل المجلة أكثر صحافةً من الجريدة نفسها، عمل منها "مجلة "أرتيستات" ثقافيةٍ شبيهةٍ بالمجلات الفنية التي تكتُب عن المغنين والراقصات". وللحق، هذا اختبار صحافيٍّ مغامرٍ وصاحب عقل نشطٍ ومتّقد، مشتبكٍ في اختبار أفكار التجديد في الصحافة، ورياض الريّس الذي أكلته الصحافة وأكلت لغته، كما كتب مرّة، شيخُ الكار في هذا. والمرجّح أن توقّف "النقّاد" (بالمناسبة لم تصدر عن شركة رياض الريّس للكتب والنشر، وإنما عن شركة إنكليزية أخرى) لأسباب التمويل وقلة المردودية وارتفاع الكلفة كان سيصير أيضا لأسبابٍ أخرى موازية، لو امتدّ عمرُها سنواتٍ أخرى، أمام الزحف المهول والكاسح لثقافة الإنترنت، والذي جعل الصحافة الورقية تنحسر، ثم تمضي إلى ما يشبه الموت، أو أقلّه الإحتضار. ولهذا أحسب أن رياض نجيب الريّس، في إصداره هذه المجلة، خفيفة الظل، الأشبه بساندويتشةٍ طيبةٍ ومغذّية، أطلق، في أواخر زمن الصحافة الورقية، آخر رصاصاته. وبمساعدة هيئة تحريرٍ محترفة، أمكن له أن يختبر ملكتَه وموهبتَه وكفاءَته، في تجريب "تنويعةٍ" مبتكرة إلى حد كبير، في مسار الصحافة العربية، وهو الصحافي الذي لمع منذ سفره الأول إلى فيتنام في 1965 مرورا بتغطيته الغزو السوفييتي براغ في 1968، وليس انتهاء بما عاين في سمرقند وزنجبار واليمن والخليج. ولهذا وغيره، "النقّاد" جديرةٌ بانتباهةٍ خاصةٍ في متون رياض الريّس العريضة.