في العلاقات الليبية الروسية
ارتبطت ليبيا وروسيا بعلاقات متميزة فترات طويلة، خصوصا في أثناء فترة الاتحاد السوفييتي الذي كان ينظر إليها أنها حليفه الاستراتيجي الذي يمكن أن يشبع شهيته للمياه الدافئة في البحر المتوسط، وأن يضمن له موطئ قدم في شمال أفريقيا بشكل عام، وخصوصا في ليبيا التي، بالإضافة إلى موقعها الاستراتيجي القريب من أوروبا، نجحت في إيجاد عمق استراتيجي داخل القارة الأفريقية، مستغلة حدودها الجغرافية مع عدد من الدول الأفريقية. وقد تعزّزت تلك العلاقات بعد استيلاء معمّر القذافي على السلطة في 1969، وكان الاتحاد السوفييتي أول الدول التي اعترفت به، سيما أن القذافي، منذ أشهره الأولى في الحكم، طالب بإجلاء القواعد البريطانية والأميركية من الأراضي الليبية، الأمر الذي ساهم في أن تتقاطع سياسة القذافي، وكذا عداؤه الغرب، مع مصالح الاتحاد السوفييتي. وقد حرص، في تلك الفترة، على إقامة علاقات مع عديد من دول العالم الثالث كجزء من صراع القوى العظمى، إبّان الحرب الباردة، بشأن مناطق استراتيجية، في مقدمتها الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وجدت موسكو في حفتر المواصفات التي تبحث عنها، والذي قد يؤدّي الدور نفسه الذي لعبه القذافي
وتفيد التقارير بأن القذافي أنفق بين عامي 1973 – 1983 ما قدره 28 مليارا لشراء أسلحة، ذهب النصيب الأكبر منها إلى الاتحاد السوفييتي، ما جعل الدول الغربية بشكل عام، وأميركا على الخصوص، تتعامل مع القذافي بكثيرمن الريبة، حتى عندما كانت العلاقات الدبلوماسية معه في أحسن أحوالها. ولم يقتصر التعاون بين البلدين على الجانب العسكري، بل تعدّاه إلى التعاون الاقتصادي الذي بلغ خلال الخمس سنوات الأولى من حكم القذافي أكثر من عشرة مليارات دولار، شملت التعاون في مجال الطاقة والكهرباء والأبحاث والبنية التحتية. وهي علاقاتٌ حافظ القذافي على استمرارها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وحرص على توطيدها من خلال التعاون مع الاتحاد الفيدرالي الروسي، وخصوصا في المجالين العسكري والاقتصادي، واستمرّت روسيا تزود نظام القذافي بالأسلحة والخبراء. ووافق الرئيس بوتين، في زيارته طرابلس، على إعادة جدولة ديون ليبيا مقابل عقود جديدة أبرمتها موسكو مع الحكومة الليبية.
انطلقت انتفاضة فبراير في ليبيا، وعوّلت حكومة القذافي كثيرا على الدعم الروسي، خصوصا أن موسكو رفضت التدخل الغربي في ليبيا في أكثر من مناسبة، لإدراكها أن ذلك يعني خسارتها حليفا لطالما اعتمدت عليه في المنطقة. ولكن هذا الرفض لم يُترجم إلى خطوات عملية مُرضية في مجلس الأمن، حيث لم تستخدم موسكو حق النقض (الفيتو) ضد القرار 1973، والذي اعتُبر بمثابة الغطاء الدولي لتدخل الغرب في ليبيا، وأدّى إلى سقوط القذافي بعد أن لعب حلف الناتو دورا أساسيا في ذلك. حاولت موسكو أن تظلّ حاضرةً في الشأن الليبي، حتى وإن خسرت صديقا كان متحالفا معها دائما، ووجدت في خليفة حفتر المواصفات التي تبحث عنها، والذي قد يؤدّي الدور نفسه الذي لعبه القذافي. وبالتالي، ساهمت من خلال مرتزقة "فاغنر" في دعمه مستغلة شغفه وطموحه في الوصول إلى سدّة الحكم بأي ثمن، وأقامت قواعد عديدة داخل ليبيا، وخصوصا في منطقتي شرق ليبيا وجنوبها اللتين تخضعان لنفوذ حفتر وسيطرته، ساعية من ذلك إلى تعزيز موقع روسيا التفاوضي في ليبيا، وضمان حصولها على نصيب مرض من "الكعكة" الليبية، خصوصا أن حفتر استطاع الهيمنة على الاحتياطات النفطية في شرق البلاد، وفي معظم الحقول النفطية في الجنوب. ومن جهة أخرى، وفي الوقت نفسه، انتهجت موسكو سياسية براغماتية من خلال الحفاظ على قنوات مفتوحة مع كل الحكومات المتعاقبة في الغرب الليبي، ليكون لها خط رجعة في حال فشل حفتر في الوصول إلى الحكم.
انتهجت موسكو سياسية براغماتية من خلال الحفاظ على قنوات مفتوحة مع كل الحكومات المتعاقبة في الغرب الليبي
وفي هذا السياق، لم تهمل موسكو سيف الإسلام القذافي أيضا، وجدّدت الاتصال به، لا سيما بعد فشل حفتر في مشروعه وانهزامه على أسوار طرابلس، وأيقنت الحكومة الروسية أنها "راهنت على الحصان الخطأ"، ولم تخفِ الحكومة الروسية تلك الاتصالات، حيث صرّح نائب وزير خارجيتها، ميخائيل بوغدانوف، بأن بلاده على تواصل مستمر مع ممثلي سيف الإسلام. وأفاد الموقع الأميركي "بلومبيرغ" بأن الاتصالات الروسية مع سيف الإسلام بدأت فور الافراج عنه، وبأن مسؤولين روسا تحدّثوا معه بالفيديو أكثر من مرّة، مضيفا أن روسيا في الوقت الذي تبدو كأنها ترمي بثقلها مع حفتر، إلا أنها، في الحقيقة، تبني، وفي صمت، علاقات مع الأطراف المتنافسة، على عكس باقي القوى المؤثرة، والتي يدعم كل منها طرفا داخليا واحدا.
اقترب موعد الانتخابات الليبية التي كان مقرّرا أن تجري في 24 ديسمبر/ كانون الأول، حيث شدّدت كل الدول الفاعلة على ضرورة إنجاز هذا الاستحقاق، بل وأعلنت دول عدة، بما فيها أميركا والأمم المتحدة، أن من المتوقع أن تفرض عقوبات على الجهات المعرقلة لإجراء الانتخابات، حيث قال المندوب الأميركي لدى الأمم المتحدة: "أود أن أذّكر الذين يتدخلون في الانتخابات الليبية أو يؤجّجون العنف بأن مجلس الأمن قد يفرض عقوباتٍ على أي شخص، ليبي او غير ذلك، يعرقل الانتخابات أو يقوّضها". وترافق اقتراب موعد الانتخابات مع تعالي الأصوات الدولية والإقليمية بضرورة إخراج جميع المرتزقة والقوات الأجنبية بشكل متزامن مع هذه الانتخابات. وعقدت اجتماعات دولية كثيرة داعمة لإجرائها، استضاف جديدها أخيرا الرئيس الفرنسي، ماكرون، بمشاركة نحو 30 بلدا ومنظمة، وكان الهدف، حسب ما أوردته الرئاسة الفرنسية، "جعل العملية الانتخابية غير قابلة للنقاش، ولا يمكن التراجع عنها"، ولوحت، على غرار الولايات المتحدة، بالتهديد بفرض عقوبات على كل من يحاول "إفساد" العملية الانتخابية.
لم تهمل موسكو سيف الإسلام القذافي، وجدّدت الاتصال به، لا سيما بعد فشل حفتر في مشروعه وانهزامه على أسوار طرابلس
أيقنت موسكو أن الدول الغربية، بما فيها الولايات المتحدة، تدفع، وبكل قوة، إلى إجراء الانتخابات في الموعد المحدد. وبالتالي، سيكون وجودها في ليبيا مهدّدا فيما إذا نجحت الانتخابات، ما قد يعني انتهاء سيطرة حفتر على الشرق، وستكون قوات "فاغنر"، والتي نفت السلطات الروسية علاقاتها بها في أكثر من مناسبة، في فوهة مدفع إخراج القوات الأجنبية، لا سيما أن أنقرة ترفض اعتبار قواتها في ليبيا أجنبية أو مرتزقة. وصرّحت، في أكثر من مناسبة، بأنها موجودة بدعوة رسمية من خلال الاتفاقية الموقعة مع حكومة الوفاق. ولهذا كان لزاما على موسكو الدخول على خط الانتخابات، في محاولة لتعطيلها حتى يظل الوضع على ما هو عليه، وليستمر وجودها من خلال القواعد التي جرى إنشاؤها في الجفرة وسرت وبنغازي. وحتى تتمكن من ذلك، دفعت بمرشّحها، سيف الإسلام القذافي، والذي تعرف مسبقا أن ليبيين كثيرين لن يرضوا به رئيسا، ناهيك عن رفض معظم الدول الغربية ترشّحه، ودافعت عن حقه في الترشّح، حيث انتقد وزير خارجيتها، سيرغي لافروف، في تصريح تلفزيوني، اعتراض الولايات المتحدة على ترشّح القذافي الابن، وحث الأميركيين والأوروبيين على أن يدعوا الليبيين يقرّرون بأنفسهم. أما الولايات المتحدة فكان موقفها واضحا من هذا الترشّح، حيث صرح نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط، جوي هود، قائلا "إن لدى العالم كله مشكلة مع ذلك، فهو يعد أحد مجرمي الحرب، ويخضع لعقوبات الأمم المتحدة ولعقوبات أميركية". وأدى هذا الخلاف، الأميركي الروسي، بالإضافة إلى أسباب أخرى، الى تأجيل الانتخابات وتعطيلها، وتغير الموقف الدولي وتراجع الساسة عن دعم الانتخابات خوفا من نجاح سيف الإسلام، في موقفٍ وصفه عضو مجلس الدولة، عبد القادر الحويلي، قائلا: "أميركا لا يهمها فوز عقيلة صالح أو خليفة حفتر أو غيرهما، ولكن لا يمكنها القبول بسيف الإسلام الذي أربك ترشّحه المشهد المحلي والدولي".
على كل حال، مرّت العلاقات الليبية الروسية بعد إزاحة معمّر القذافي بمنعطفاتٍ عديدة، ولم يكن الكرملين على وفاق مع معظم الحكومات الليبية التي مارست أعمالها من الغرب الليبي. وفي المقابل لم تتفق السياسة الليبية في الخطوات التي دأبت روسيا على اتخادها وصبت في مجملها في دعم خليفة حفتر، ولعل هذا ما يفسّر موقف الخارجية الليبية من الأزمة الروسية الأوكرانية، حيث سبقت كل الدول العربية في إدانة الهجوم الروسي على أوكرانيا، وأعلنت رفضها الخطوة الروسية المتعلقة باعترافها بانفصاليي أوكرانيا. وملاحظ أنه، على الرغم من اعتراف روسيا بحكومة "الاستقرار" التي شكلها مجلس النواب، أخيرا، برئاسة فتحي باشاغا، إلا أن الأخير دان، أيضا، الهجوم الروسي على أوكرانيا، داعيا إلى احترام السيادة الأوكرانية، مضيفا إن "هجوم روسيا على أوكرانيا انتهاك واضح للقانون الدولي وسيادة أوكرانيا الديمقراطية"، في تصريح يحاول منه، في ما يبدو، كسب ود الدول الغربية، ودفعها إلى الاعتراف بحكومته التي تواجه انتقاداتٍ كثيرة، فهل ستلقي الأزمة الروسية الأوكرانية بظلالها على علاقات روسيا بليبيا، ما قد يعجّل بإخراج قواتها، أم أن الأمر سيظل كما هو إلى حين قيام حكومة وطنية ليبية واحدة تفرض رغبات الشعب الليبي بخروج جميع القوات الأجنبية؟