فتاوى .. أم عصير خنزير!
"مراتي مدير عام"، فيلم مصري، من إنتاج 1966، يحكي عن زوج وزوجة يعملان في مصلحة حكومية، نالت الزوجة ترقيةً، فصارت مديرة على زوجها، ورجال آخرين. وكيل المصلحة، الرجل الثاني، هو الفنان القدير شفيق نور الدين، يلعب دور متديّن محافظ، يستنكر أن تُعيّن الوزارة مديرةً "تنقض الوضوء"، كيف يحافظ على وضوئه، ويؤدّي صلاته، وهو مضطرٌّ، بحكم موقعه الإداري، لمصافحتها يومياً. كان عادل إمام، وقتها، ممثلاً صغيراً، يلعب دور أحد الموظفين، شاب طيب، ساذج، يقرأ كتب التنمية البشرية، لعلها تعينُه على فهم الحياة، والوصول إلى رضا رؤسائه، والحصول على الترقية. يتورّط مع مديرته، شادية، غير مرّة، في مواقف سلبية، جزاء سذاجته. ومع ذلك، ينجح في خداع الوكيل "المحافظ"، والسخرية منه. تدعوهم شادية إلى وجبة خفيفة، ساندوتشات من صنع يديها، تشجيعاً لهم على السهر ومواصلة العمل، ويحتال عادل إمام لسرقة وجبة الوكيل، فيخبره، في قلقٍ مفتعل، أنه "يشكّ" في أن ما يأكلونه لحم خنزير. يصدّق الوكيل، على الرغم من "لا منطقية" الفرية، ويترك الساندويتش، بدعوى أن "فيه شك"، ويكتفي بشرب عصير البرتقال، فيخطفه عادل إمام، ويُخبره بأنه "عصير خنزير"، هو الآخر، فيصدّق، وينظر إلى يديه، قلقاً من تسرّب "نجاسة" الخنزير!
يبدو، للوهلة الأولى، "إفيه" مبالغاً فيه، لا يبرّره سوى منطق الكوميديا، أو مؤامرة التربّص بالمتدينين في سينما "الدولة الناصرية"!، إلا أن فتوى أخيرة، صدرت عن أحد شيوخ الأزهر، وحملت وسم المؤسسة العريقة، تقترب، في أحسن الأحوال، من ذهنية "وكيل المصلحة". المفارقة أنها لـ "وكيل الأزهر". ينجح أطباء أميركيون في زراعة كلية خنزير في جسم إنسان، فيُفتي مركز الأزهر للفتوى الإلكترونية، (والفتوى لشيخ وليس روبوتاً)، بأن "الأصل أن التداوي بجزء من أجزاء الخنزير، كزرع كُليته في جسم الإنسان، هو الحرمة، إلا في حالة الضرورة المُلجئة، أو الحاجة التي نزلت منزلة الضرورة". والضرورة المقصودة هي عدم وجود بديل عن كلية الخنزير، وليس ضرورة تغيير الكُلية من عدمها، كما تصوّرت مئات الحسابات على "السوشيال ميديا"، وأوسعت الفتوى سخريةً، ومنحت صاحبها، مع الأسف، مزيداً من التصدّر والرواج، من دون أن تنال منه. ولو صبر القاتل على المقتول، كما يقول المثل، وقرأ رواد "السوشيال ميديا" نص الفتوى، لوجدوا فيها مادة لسخريةٍ "مستحقّة"، بدلاً من التسرّع، والاكتفاء بالانطباعات الأولى.
يستثمر "الشيخ" في آراء تراثية تفيد خلاصتها بأن الخنزير كله حرام، عينه حرام.. رجس.. نجس، فيما يتجاوز آراء أخرى، أقرب إلى منطق زمانه، تقتصر على تحريم أكل "لحم الخنزير"، وفق النص القرآني. يتجاوز الشيخ الطب الحديث، وآراء الأطباء، وهم، هنا، أهل الذكر الحقيقيون، ويصرّ على تمرير الحكم من بوابات الضرورة التي تبيح المحرّم، يشير إلى كلية الخنزير، كما أشار عادل إمام إلى "ساندويتش المخ"، وعصير البرتقال، ويحاول إقناع متابعيه، بالطريقة نفسها. الفرق أن الشيخ ليس كوميدياناً.
لا يكمن المشكل في تبنّي الشيخ الرأي الأكثر تشدّداً، فهذا "روتين". المشكل هو ما يتهامس به أزهريون، خبثاء، (لعلهم مخطئون)، بشأن الدافع الرئيس من وراء الفتوى. منذ شهرين، تحديداً 11 أغسطس/ آب 2021، استطاع النظام، في حلقةٍ من حلقات الصراع بين الرئيس وشيخ الأزهر، "تأميم" دار الإفتاء المصرية، ونزع تبعيتها من هيئة كبار العلماء، وتحويلها إلى مؤسّسة الرئاسة، الرئيس من يعين المفتي.. الرئيس من يمدّد له.. الرئيس من يعزله، باختصار: الرئيس من يفتي. جاء القرار، مثل أغلب قرارات عبد الفتاح السيسي، بالمخالفة للقانون، "عافية"، ما يعني "صراعاً" بين الأزهر والإفتاء، وليس تعاوناً، كما هو مفترض، من يفتي الناس، من يحوز ثقتهم، من يتحدّث باسم الإسلام؟.. الأكثر استقلالية أم تشدّداً؟ والإجابة، هنا والآن، واضحة، حيث ينتصر المزاج السلفي العام للأكثر تحريماً وتضييقاً على الناس، ومجافاةً للواقع، يتراجع استقلال المعرفة لصالح استقلال المؤسسة، الرأي الديني لصالح التقفيل السياسي، ما يعني استمرار "عركة الفتاوى" على حساب أعضاء أخرى أكثر أهمية من "الكُلية"، وربنا يستر.