المقاومة الفعل العقلاني الوحيد
لا يبدو الموت في فلسطين قدراً بيولوجياً بل مشروعا استعماريا، يهدف إلى قتل الفلسطينيين، وإبادتهم، والتخلص منهم، بطرق مختلفة، المجازر الجماعية، والاغتيالات السياسية، والاعتقالات حتى الموت، والطرد من المنازل والاستيلاء عليها، وتشريد آلاف من بيوتهم وبلادهم، بلا عودة. الفرق بين موت الفلسطيني اليومي وموته في الحرب هو الفرق بين الدفع بالتقسيط والدفع نقدا، بين موت روتيني مجاني وآخر له أثمان قريبة من أمان القاتل، وأثمان ليست بعيدة من وجوده.
تعرّضت مفاهيم مركزية في حيواتنا العربية إلى التجريف والتحريف والتخريف، إلى درجةٍ لم يعد معها شيء صلبا، أو واضحا، أو مبدئيا، أو بديهيا. تحولت نقاشاتنا إلى حروب أهلية، وفرص للاغتيال والتصفية المعنوية على الدين والمذهب والطائفة والأيديولوجية والمزاج الوطني أو القبلي. مفهوم واضح (في بعده الشعبي)، مثل "الوطنية"، تحوّل من حب الوطن، البشر والحجر والثقافة والحضارة والتاريخ وأسباب العيش ورموز العمل والكفاح والإضافة والاستمرار. تحول ذلك كله إلى الولاء لمن يحكم، فالوطنية هي حبّ الرئيس الحالي، وتأييده، غير المشروط، فيما الخيانة هي معارضته.
تبدأ اللعبة القاتلة عبر تقنية "خرطوم الأباطيل"، وفق كريستوفر بول ومريام ماثيوز في دراستهما عن نموذج الدعاية الروسية، ثم تتحوّل الأباطيل لدى قطاع كبير من "الوطنيين" إلى حقائق راسخة في مواجهة قطاع آخر أسعفه تعليمه ووعيه ومراقبته ضميره في فهم اللعبة، فلم يقع في حبائل الشاشات والكتائب الإلكترونية والتيوس المستعارة على مواقع التواصل الاجتماعي، لتشتعل حربٌ أهلية في الأفكار والمواقف والانحيازات بين الأخوين في البيت الواحد. تحوّلت الثورات الشعبية إلى مؤامرات، الحريات فواحش، الديمقراطية إلى فلسفة كُفرية، في رواية، ونظام حكم مستورد، لا يتناسب مع خصوصيّتنا، في رواية أخرى. واليوم ينال مفهوم "المقاومة" نصيبه، ليتحوّل إلى "عنترية" في رواية، وخدمة لمصالح إسرائيل في رواية أخرى.
في كتابه "حول الاستراتيجية"، يتحدث العقيد الأميركي، هاري ج. سامرز، عن تجربته في الحرب الفيتنامية، ويقول إنه ألف الكتاب خصّيصا للإجابة عن سؤال الهزيمة الأميركية في فيتنام. يبدأ سامرز بحوار دال بينه وبين عقيد من جيش فيتنام الشمالية، في هانوي، 1 إبريل/ نيسان 1975، فيقول العقيد: "أنت تعلم أنك لم تهزمنا قط في المعركة القديمة". يجيب الفيتنامي (بعد لحظة تفكير): "قد يكون الأمر كذلك، لكنه أيضا غير ذي صلة". أي أن كسب الجيش الأميركي المعارك كلها لم يؤثر على نتيجة الحرب، وهو انتصار الفيتناميين. يعلق العقيد: "أحد أكثر الجوانب المحبطة لحرب فيتنام من وجهة نظر الجيش الأميركي أننا نجحنا في كل ما يتعلق باللوجستيات والتكتيكات. كان الجيش الأميركي قادرا على نقل ما يقرُب من مليون جندي سنوياً داخل فيتنام وخارجها، وإطعامهم، وكسوتهم، وإيوائهم، وتزويدهم بالأسلحة والذخيرة، وتأمينهم، بشكل غير مسبوق، في أي جيش أو معركة في العالم، الأمر الذي جعلهم جيشاً لا يُهزم، وقد ثبت ذلك في الاشتباك بعد الاشتباك، حيث تكبّدت قوات الفيتكونغ والجيش الفيتنامي خسائر فادحة. ومع ذلك، انتصر الفيتناميون في النهاية. كيف نجحنا إلى هذا الحد، ومع ذلك فشلنا فشلاً ذريعا؟". نسيت أن أخبرك أن العقيد الأميركي هاري ج. سامرز وضع عنوانا لهذه المقدّمة "انتصار تكتيكي وهزيمة استراتيجية".
قد يبدو الكلام عن انتصارات المقاومة الاستراتيجية وسط حرب إبادة للشعب الفلسطيني في غزّة غير مسؤول، من وجهة نظر تشاؤمية متسرّعة، ناهيك عن خطابات إعلام محور التطبيع. قد يطرح مخلصون اعتراضات بشأن خطة المقاومة، وإمكانية خوض حرب بلا خسائر فادحة كالتي كبّدها الجيش الأميركي للفيتناميين في المعارك كلها، لكن تواريخ المقاومة، عندنا وعند غيرنا، تشهد أن فارق الإمكانات لصالح العدو لم يمنع صاحب الأرض من المحاولة تلو الأخرى، ولم يحُل بينه وبين الانتصار النهائي، كما أن التواريخ نفسها، خاصة عندنا، تشهد بحقيقة تعجز سيولة خطابات التجريف والتحريف والتخريف عن إغراقها، وهي أنه لا سبيل آخر.