فانتازيا الجمهور في تونس

14 ابريل 2023

أنصار لقيس سعيّد يتضامنون معه في العاصمة تونس (14/1/2023/فرانس برس)

+ الخط -

تعدّ الجموع مكوّنا أساسيا من مكوّنات الحراك السياسي، فعليها المعوّل في بناء حكم رشيد أو في صناعة نظام حكم شمولي، فكثيرا ما يتمّ استثمار مشاعر الجمهور وأفكاره، ونوازعه الواعية واللاواعية في دعم أو رفض فكرة ما أو شخصٍ ما أو ظاهرة ما، وفي تركيز مشروع سياسي أو نقضه، وفي إعلاء زعيم أو إطاحته، فالقوّة الجماهيرية وازنة في توجيه التحوّلات السياسية، ذلك أنّها يمكن أن تشكّل قاعدة شعبية ميّالة إلى نشر قيم نبيلة مثل العدالة، والحرية، والكرامة، والثورة على الاستبداد. كما يمكن أن تكون أداةً لتبرير الدكتاتورية والشعبوية، والتطرّف والعنصرية وإلغاء الآخر. ويفقد الفرد ذاتيّته واستقلال قراره داخل الجموع التي توظّفه لخدمة مصالحها وتأييد زعيمها، فيتبنّى شعاراتها وينتظم ضمن أجندتها. وتبقى إيجابية حركة الجموع من عدمها رهينة مدى عقلانيتها وإدراكها الموضوعي للواقع. فتغليب النوازع الوجدانية الغريزية هو قوام ما يسمّيه غوستاف لوبون الجمهور النفسي الذي يقوده الانفعال، والفانتازيا، وتعتريه قوّة تدميرية كبيرة، ورغبة في الانفلات من عقال العقل بغاية التأسيس للذات عبر تقويض الآخر. أمّا تحكيم العقل واحترام المؤسّسات والاعتراف بالغير فقوام ما يسمّيه سيغموند فرويد الجمهور النظامي الذي يمكن أن يظهر في مؤسسة الجيش، والجمعيات والأحزاب المدنية المسؤولة. والملاحظ في تونس بعد 25/07/2021 صعود ما يعرف بالجمهور النفسي داخل الاجتماع السياسي التونسي. ولذلك تجلّيات وتداعيات عدّة.

كان حلّ البرلمان الشرعي المنتخب سنة 2019 قبل نهاية عهدته في جانبٍ ما نتيجة حركة ما يُعرف بالجمهور الانفعالي في السياق التونسي، فقد جرى شهورا تحشيد الناس ضدّ مجلس نوّاب الشعب وتحميله كلّ مشكلات البلاد وعثرات الانتقال الديمقراطي، وكأنّه المؤسّسة السيادية الوحيدة الحاكمة في تونس، فنشطت حملات مكثّفة في المنابر الإعلامية وشبكات التواصل الاجتماعي لشيطنة العمل النيابي. وانتقلت تلك الحملات على التدريج من الفضاء الافتراضي إلى الواقع، فخرج بعضهم إلى الشارع مطالبا الرئيس قيس سعيّد بحلّ البرلمان. ولم يكن الدافع إلى ذلك امتعاض بعضهم من أداء المجلس النيابي فحسب، بل كانت الجموع مدفوعة أيضا بنوازع وجدانية وبراغماتية، فأنصار سعيّد كانوا يرون في البرلمان سلطة تشريعية وقوّة تمثيلية فاعلة، نافست الرئيس على القيادة، وفرضت رقابةً على أدائه، وحدّت من نفوذه. لذلك جدّوا في طلب التخلّص من البرلمان بغاية تمكين الزعيم ومركزة السلطة بيد رئيس الجمهورية. أمّا جمهور أحزاب (حركة الشعب، الحزب الدستوري الحر، التيار الديمقراطي، حركة آفاق ...) فكان مدفوعا أساسا بهاجس كراهية الإسلاميين في مطالبته بحلّ البرلمان. فجلّ أتباع تلك الأحزاب وقياداتها لم يكن يروق لهم وجود زعيم محسوب على الحركة الإسلامية على رأس المؤسّسة التشريعية. لذلك دفعوا واندفعوا نحو تأييد حلّ المجلس النيابي بغاية إزاحة الإسلاميين من الحكم. وقدّروا أنّ ذلك سيسمح لهم باغتنام الفرصة، وتصدّر المشهد السياسي، وقيادة البلاد لاحقا على طريقتهم. لكن ما حصل بعد زهاء عامين من حركة 25/07/2021 أخبر أنّ تلك الأحزاب لم تجد نفسها مكوّنا أساسيا في صلْب منظومة الحكم وصناعة القرار. بل وجدت نفسها على هامش السلطة المركزية للرئيس أو في معسكر المعارضين لسياساته، فالتسليم على سبيل الانفعال، والاستعجال، والنكاية بالآخر السياسي بحلّ البرلمان والتخاذل في الدفاع عنه لم ينفع تلك الأحزاب في شيء، بل مكّن سعيّد من تمديد نفوذه فحلّ هيئات مدنيّة ومجالس تمثيلية أخرى، أُكلت يوم أُكل البرلمان الشرعي، التعدّدي، المنتخب في ظلّ صمت مدنيٍّ مطبق. فجرى تاليا حلّ هيئة مراقبة دستورية القوانين، وهيئة مكافحة الفساد، والمجلس الأعلى للقضاء، والمجالس البلدية. فضلا عن إعادة تشكيل هيئة الانتخابات، وتعديل القانون الانتخابي، وإلغاء دستور 2014. وذلك في ظلّ انتشاء جمهور الرئيس بهيمنة الزعيم على المشهد وبهتة جلّ معارضيه. ومن ثمّة، أدّت الحماسة لحلّ البرلمان إلى تفكيك لبنات البناء الديمقراطي/ التشاركي الواحدة تلو الأخرى، على نحوٍ ساهم في إعادة إنتاج نظام حكم رئاسوي، أحادي، مطلق.

تفاعل طيفٍ معتبر من التونسيين مع مسألة توافد مهاجرين أفارقة من جنوب الصحراء على البلاد حمل طيّه كمّا من الانفعال والارتجال والعدوانية

كما أنّ تفاعل طيفٍ معتبر من التونسيين مع مسألة توافد مهاجرين أفارقة من جنوب الصحراء على البلاد حمل طيّه كمّا من الانفعال والارتجال والعدوانية، فبمجرّد قول الرئيس قيس سعيّد في اجتماع لمجلس الأمن القومي (21/02/2021) إنّ "هناك ترتيبا إجراميا تمّ إعداده منذ مطلع هذا القرن لتغيير التركيبة الديمغرافية لتونس، وإن هناك جهات تلقت أموالاً طائلة بعد سنة2011 من أجل توطين المهاجرين غير النظاميين من أفريقيا جنوب الصحراء في تونس، وإن هذه الموجات المتعاقبة من الهجرة غير النظامية الهدف غير المعلن منها هو اعتبار تونس دولة أفريقية فقط ولا انتماء لها للأمتين العربية والإسلامية"، ركب كثيرون ذلك التصريح، ليوغلوا في ترويج خطاب الكراهية المعادي للأشقاء الأفارقة، واعتبروهم تهديدا للهوية الوطنية، وبالغوا في تضخيم عددهم حتى قدّره بعضهم بـ 700 ألف، والحال أنّ عددهم لا يتجاوز حدود 21500 مهاجر بحسب المعهد الوطني للإحصاء. وبلغ التهوّر العصبي والانفعال القومجي بطيف من الجمهور درجة الدعوة إلى طرد الأجانب والقول إنّ" تونس للتونسيين دون غيرهم". فيما أقدم بعضهم على ارتكاب أعمال عنف، مادّية أو رمزية، ضدّ بعض أفراد الجالية الأفريقية. وكانت لتلك الممارسات الانفعالية الشعبوية الرعناء تداعيات سلبية على صورة تونس عالميا، فقد تمّ وصم البلد بالعنصرية والحال أنّه سبّاق في تحريم العبودية وظلّ قلعة للتسامح والتنوع قرونا. كما بادرت بلدان أفريقية بإجلاء مواطنيها من تونس (غينيا، كوت ديفوار، مالي)، وقاطعت أخرى السلع التونسية، وألغى الاتحاد الأفريقي "مؤتمرا لمكافحة التدفقات المالية غير المشروعة" الذي كان مقررًا عقده في تونس خلال الشهر المنقضي (مارس/ آذار)، فيما وجّه مدير البنك الدولي ديفيد مالباس إلى الموظفين مذكرة جاء فيها أنّ "البنك أوقف عمله مع تونس وقتيًا بعد أن أثارت تصريحات الرئيس التونسي قيس سعيّد بشأن المهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء مضايقات وأعمال عنف ضدّهم بدوافع عنصرية". كما دانت منظمات حقوقية وأممية وازنة سياسات السلطات التونسية إزاء المهاجرين الأفارقة. وزاد ذلك من عزلة النظام الحاكم في محيطه القارّي والدولي.

ومن بين مظاهر انفعال الجُموع في السياق التونسي أيضا انخراط كثيرين في حملة تنظيم محاكمات فيسبوكية، وإصدار أحكام مسبقة بشأن بعض السياسيين الذين تحوم حولهم شبهة تآمر على أمن الدولة، فبمجرّد قول الرئيس بأنّهم "خونة ومجرمون ومتآمرون وعملاء"، تزايدت حملات السحل الإلكتروني والإعلامي والشعبوي للمعارضين للنظام الحاكم، وبلغ الأمر ببعضهم درجة المطالبة بإعدامهم، وشنقهم في الساحات العامّة. والحال أنّ القضية ما زالت تحت أنظار القضاء وفي طوْر التحقيق الابتدائي. وفي ذلك إهدارٌ لقرينة البراءة، وسرّية الأبحاث، وشروط المحاكمة العادلة، ومقولة إنّ االمتهم بريء حتّى تثبت إدانته"، وتسليط لضغط سلطوي وشعبوي على القضاة على نحوٍ يمسّ من استقلاليتهم، ويشوّش على جهدهم في استجلاء الحقيقة.

الجمهور ليس دائما على حقّ، كما أنّ الزعيم ليس دائما على حقّ

على صعيد آخر، اغتنم بعض رموز المعارضة الغيبة الصغرى للرئيس قيس سعيّد أخيرا لينخرطوا في صناعة أوهام كبرى لجمهورهم، فذهبوا إلى أنّ الرجل "في حالة صحية حرجة"، وقال آخرون إنّه فقد مداركه العقلية، وقال سواهم إنه "في حالة موت سريري"، واخترع غيرهم شهادة وفاة للرئيس من دون أن يقدّموا أيّ دليل مؤكّد في هذا الخصوص. وانصرفوا إلى صناعة فانتازيا الانقلاب الطبي على الانقلاب الرئاسي في أذهان أتباعهم، ودعا بعضهم الجيش إلى التدخّل، وأسهب الجميع في الحديث عن مسألة سدّ الشغور الدائم أو المؤقّت لمنصب رئيس الجمهورية، وطفق الأتباع يتخيّلون تركيبة حكومةٍ جديدةٍ ورئيس جديد، ويتوعّدون خصومهم بالويل والثبور وسوء المصير ليتبيّن لاحقا أنّ سعيّد كان يعاني من وعكة صحية عابرة، فقد طلع بعد عشرة أيّام للناس مستقبلا رئيسة الحكومة ووزير الخارجية في قصر قرطاج. واغتنم الفرصة ليسفّه المعارضين ويتهمهم باللهفة على السلطة والتكالب على الحكم، قائلا إنّهم "يعانون من شغور في التفكير". وساهم ذلك نسبيا في عطف القلوب حول الرئيس، وانتقص نسبيا من صدقية طيفٍ من المعارضين لسياساته.

ويمكن من منظور سوسيو/ نفسي تفسير السلوك الانفعالي للجموع بعطالة مهارات التفكير العقلاني لديها، وجموحها إلى إنكار إكراهات الواقع، وصناعة عالم طوباوي، متخيّل، يجافي الحقيقة. كما أنّ انقيادها الآلي لسلطة الزعيم وامتلاءها بقوّته الرمزية، وانبهارها بأقواله وأفعاله، وارتهانها لتعاليمه وأحكامه تجعلها كتلة بشرية نمطية، تقبُر ثقافة الاختلاف، وتعطّل قدرة الفرد على التحليل والتفكير والنقد، فيذوب الفرد في الجمهور، ويغدو رهينة للحشد، ويُمسي مسكونا بمشاعر جيّاشة، ونوازع غضبية وانتقامية على نحو يجعله يرى الواقع وهما، والوهم حقيقة، ويرى المخالف عدوّا بالضرورة.

ختاما، يتبيّن مما تقدّم أنّ الجمهور ليس دائما على حقّ، كما أنّ الزعيم ليس دائما على حقّ. فكلاهما قد يرْكب الوهم، ويجافي الواقع، ويزيّف الوعي والتاريخ لخدمة مصالح شخصية وفئوية ضيّقة.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.