مآخذ على رئاسيات تونس
تعدّ الانتخابات الرئاسية في تونس حدثاً سياسياً بارزاً، واستحقاقاً شعبياً لافتاً، تهفو إليه القلوب، ويلتفت إليه المُترشّحون، والمُقترِعون، وعموم المواطنين، وذلك لدرايتهم بأهمّية مؤسّسة رئاسة الجمهورية في إدارة البلاد ومدّ جسور التواصل بين تونس والخارج، وفي رسم معالم السياسات العامّة للدولة وقيادة القوات المسلّحة. وقد غلبت على الاستحقاق الانتخابي، زمن الحبيب بورقيبة وخَلَفه زين العابدين بن علي، هيمنة الحزب الواحد، والرجل الواحد، وكانت نتيجة الانتخابات (رغم إقبال الناس عليها) محسومةً سلفاً لصالح الرئيس السائد، فهي أشبه بالبيعة لتجديد العهد للحاكم المطلق في ظلّ نظام رئاسي مغلق.
أمّا بعد الثورة (2011)، فتحرّر الفعل السياسي، وتعدّد المشهد الانتخابي، وتنوّعت البرامج، وتنافس المتنافسون على الفوز بأصوات المقترعين في كنف الشفافية والنزاهة وحياد الإدارة، في ظلّ مسار انتخابي تميّز بمشاركة شعبية واسعة، وأشرفت عليه هيئةٌ مستقلّة، وراقبته منظّماتٌ مدنية وحقوقية موثوقة من الداخل والخارج. وساهم ذلك في إشعاع التجربة الديمقراطية التونسية، وتأمين تداول سلمي لرئاسة البلاد.
أحيت الانتخابات الرئاسية 2024 النقاش بشأن إدارة الشأن العام في تونس، واستعاد خلالها الشارع الاحتجاجي عنفوانه
أمّا بعد 25 يوليو/ تموز 2021، فألغى الرئيس قيس سعيّد النظام البرلماني المُعدَّل، وأمسك بزمام السلطات كلّها، وأعاد مؤسّسةَ رئاسة الجمهورية إلى واجهة الفعل السياسي. ووعد بتنظيم انتخابات رئاسية بتاريخ 6 أكتوبر/ تشرين الأول 2024، وأوفى بوعده. وقد قدّم 17 مترشِّحاً ملفّاتهم لخوض السباق الانتخابي نحو الفوز بكرسي قصر قرطاج. لكنّ الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات أقرّت نهائياً قبول ثلاثة مُترشِّحين فقط للتنافس على منصب الرئيس الثامن للجمهورية بعد الاستقلال، وهم الرئيس المنتهية ولايته قيس سعيّد، والأمين العام لحركة الشعب زهير المغزاوي، ورئيس حركة عازمون النائب السابق في مجلس نواب الشعب العياشي زمّال. وتكتسب الرئاسيات الحالية أهمّيتها بالنسبة إلى سعيّد وأنصاره من أنّها "حرب تحرير وتقرير مصير وثورة حتّى النصر... من أجل تأسيس جمهورية جديدة". في حين يعتبرها خصومه فرصةً لإغلاق قوس "25 يوليو"، ووضع حدّ للنظام الرئاسي المُطلق، واستئناف مشروع الانتقال الديمقراطي. فيما يتطلّع تونسيون آخرون إلى أن تؤدّي الانتخابات الرئاسية إلى تحسين أوضاعهم المعيشية والحقوقية.
وتُعتبر الانتخابات الرئاسية المُقبلة، بحسب ملاحظين، مصيريةً من جهة أنّها ستُحدّد معالم النظام السياسي الحاكم، وطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم خلال السنوات الخمس القادمة. ويرى مراقبون أنّ المسار الانتخابي تخلّلته عدّة إخلالات، ولهم عليه مآخذ عدّة، منها ما اتّصل بمدى احترامه مبدأ التعددية وتكافؤ الفرص، ومنها ما اتصل بآليات فضّ النزاع الانتخابي، وما تعلّق بالتغطية الإعلامية للعملية الانتخابية وضمانات مراقبتها.
من المفيد الإشارة أوّلاً إلى أنّ الانتخابات الرئاسية 2024 قد أحيت النقاش بشأن إدارة الشأن العام في البلاد، وأعادت الناس إلى الاهتمام بالسياسة، واستعاد خلالها الشارع الاحتجاجي عنفوانه إلى حدّ ما في كنف السلمية، وفي ظلّ رقابةٍ مسؤولةٍ من الأجهزة الأمنية. فقد كسر المواطنون نسبياً حاجز الخوف، وعبّروا بطرائق مختلفة عن اعتراضاتهم على سيرورة العملية الانتخابية. ومن بين أكثر المآخذ أهمّيةً المثارة في هذا الخصوص، ضيق الناس بقلّة عدد المقبولين نهائياً في السباق الانتخابي. فالاكتفاء بثلاثة متنافسين لا يعكس تنوّع الاجتماع التونسي، ولا يسمح لعائلات سياسية وازنة من قبيل الإسلاميين واليساريين والدساترة بأن تُعبّر عن وجودها، ولا اختيار ممثّلين لها في قصر قرطاج. فقيس سعيّد محسوب على تيّار 25 يونيو (2021)، وزهير المغزاوي ينتمي إلى التيّار القومي الناصري. أمّا زمال، فرجل أعمال ذو خلفية ليبرالية. وترجع قلّة عدد المقبولين نهائياً لخوض التنافس على الرئاسيات إلى تشديد الهيئة المُشرِفة على الانتخابات شروط الترشّح، التي تتطلّب التزكية من خلال جمع تواقيع عشرة نواب في البرلمان، أو 40 رئيساً للسلطات المحلّية، أو عشرة آلاف ناخب (500 توقيع على الأقلّ في كلّ دائرة انتخابية). كما ألزمت الهيئة المُرشَّح بتقديم ما يفيد الجنسية التونسية للأب والأمّ والجدّ للأب والجدّ للأم، والحصول على "بطاقة عدد 3" المتعلّقة بالسوابق العدلية، وهو شرط أبطلته المحكمة الإدارية سابقاً. كما رفضت الهيئة العليا للانتخابات إعادة ثلاثة مُرشّحين إلى السباق الانتخابي (عبد اللطيف المكّي، عماد الدايمي، منذر الزنايدي) رغم حكم الجلسة العامّة للمحكمة الإدارية بقبول طعونهم شكلاً وأصلاً، وإقرارها سلامة ملفّاتهم. وقد أدّى ذلك عمليّاً إلى محدودية التعدّدية في رئاسيات 2024. يُضاف إلى ذلك أنّ حبس أحد المُترشّحين المقبولين (العياشي زمّال) وتحويل ترشّحه ملفّاً قضائياً باعتباره محلّ تتبّع في 30 قضية ويزيد تحت شبهة افتعال تزكيات، ومُنِع ممثّله من تقديم كلمته في الإعلام العمومي، وعدم تمكينه من التواصل الميداني المباشر مع مريديه... ذلك كلّه يحول دون قيامه بحملته الانتخابية في ظروف عادية، ويضرب مبدأ تكافؤ الفرص.
وفي سياق متّصل، مثّل النزاع الانتخابي الحادّ واستتباعاته القانونية المُعقَّدة علامةً واسمة لرئاسيات 2024. فقد احتكم المُترشّحون الثلاثة الذين استبعدتهم هيئة الانتخابات إلى المحكمة الإدارية المعروفة بحِرَفيتها واستقلالها النسبي عن السلطة التنفيذية. فقضت في جلستها العامّة بإرجاعهم إلى السباق الانتخابي، لكنّ الهيئة العُليا للانتخابات رفضت تنفيذ قرار المحكمة الإدارية، والحال أنّها ملزمة بذلك بحسب قانونيّين. خلّف ذلك حالةً من الاستياء والذهول والغضب في صفوف طيف مُعتبَر من التونسيين، وأغرق البلاد في حمأة نزاعات قانونية شكلانية شتّى، وأخبر ذلك القرار بعدم وجود انسجام بين مؤسّسات الدولة، وبنزاع حادّ على الصلاحيات بين هيئة الانتخابات والمحكمة الإدارية، وباستخفاف بعلوية القانون في ظلّ غيبة المحكمة الدستورية، بحسب مراقبين.
وتحت طائلة احتمال قبول المحكمة الإدارية طعونَ مُعارضين في شرعية نتائج الانتخابات القادمة، عمد نواب مناصرون لسعيّد إلى تقديم مبادرة إلى البرلمان تنصّ على تعديل القانون الانتخابي، أسبوعين قبل إجراء الانتخابات، بغرض سحب صلاحية فضّ النزاع الانتخابي من القضاء الإداري، وإحالة ذلك إلى القضاء العدلي. ودلّ ذلك على أنّ المؤسّسة القضائية محلّ تجاذب سياسي بين النظام الحاكم وخصومه، وبدا واضحاً، بحسب ملاحظين، توظيف المنظومة الحاكمة المجلسَ التشريعي والقضاء لخدمة توجّهات السلطة التنفيذية.
وبدا واضحاً، بحسب مراقبين، انحسار التغطية الإعلامية لرئاسيات 2024. ولذلك تجلّيات عدّة، لعلّ أهمّها أنّ القانون الانتخابي يمنع على المُرشَّحين إجراء حملاتهم في الإعلام الأجنبي، وكذا استبعاد هيئة الانتخابات وسائلَ الإعلام، باستثناء التلفزيون الرسمي، من تغطية إعلانها عن القائمة النهائية للمُترشّحين للانتخابات الرئاسية. وأثار ذلك استياءَ معظم الإعلاميين في المجالين العمومي والخاص. واعتبرت النقابة الوطنية للصحافيين "النهج الذي اعتمدته هيئة الانتخابات في هذا الخصوص إقصائياً"، وهو في تقديرها "محاولة من الهيئة للهروب من المساءلة الإعلامية بشأن قرارها باستبقاء مُترشّحين واستبعاد آخرين، وللتملّص من الإجابة على استفسارات الرأي العام حول عدم التزامها بأحكام القضاء الإداري". كما يُلاحظ الدارس بيُسر إغلاق الإعلام العمومي في وجه معارضين للنظام القائم، وقلّة البرامج الحوارية المعنية بالتداول في الشأن السياسي عموماً، والانتخابي خصوصاً. وشاع بين الصحافيين لزوم الصنصرة الذاتية، واستبطان الخوف من التتبّعات الجزائية في ظلّ اعتقال صحافيين ومدوِّنين، وسطوة المرسوم الرئاسي عدد 54، الذي فرض قيوداً صارمةً على حرّية التعبير.
حبس العياشي زمّال وتحويل ترشّحه ملفّاً قضائياً ضربا مبدأ تكافؤ الفرص
ومثّل عدم تنظيم مناظرة بين المُرشَّحين الثلاثة نقيصةً في رئاسيات 2024. فقد فوّت ذلك على المتنافسين فرصةَ عرض أجنداتهم البرامجية وسيرهم الذاتية وهُويَّاتهم السياسية على الجمهور الانتخابي، وإظهار قدراتهم التعبيرية والحجاجية والخطابية بغاية استقطاب المُساندين، والمُعارضين، والمُتأرجحين، على السواء. وحرم ذلك الجمهور المُستهدَف من فرصة متابعة الأداء التواصلي للمترشّحين الثلاثة، واكتشاف مدى قدرتهم على الإبلاغ والإقناع، ومدى إدراكهم مشاكلَ الناس ومسالك حلّها. ويساعد ذلك إلى حدّ كبير الناخبين في اختيار الشخصية الأجدر بالتصويت لها. ومع أنّ هيئة الانتخابات حريصة على التمسّك بمبدأ الولاية العامّة على الانتخابات، فإنّها لم تكن جادّةً، بحسب ملاحظين، في إلزام المترشّحين الثلاثة بالتناظر. وأثّر ذلك سلباً على الإشعاع الإعلامي والاتصالي لرئاسيات 2024.
وعلى الصعيد الرقابي، رفضت الهيئة العليا للانتخابات مطالب اعتماد بعض الجمعيات لملاحظة الانتخابات الرئاسية لسنة 2024، مثل منظّمتَي "أنا يقظ" و"مراقبون"، وتعلّلت "بعدم احترام بعض المنظّمات واجب الحياد والاستقلالية والنزاهة إزاء جميع المتدخّلين في العملية الانتخابية، وتلقّيها تمويلاتٍ أجنبيةً مشبوهةً بمبالغ مالية ضخمة"، من دون أن تستند في ذلك إلى حكم قضائي باتٍّ يُدين الجمعيات المعنية التي اعتبرت "القرار تعسّفياً، إقصائياً، جائراً". ومعلوم أنّ بعض المنظّمات اضطلعت بدور فاعل بعد الثورة في مراقبة سيرورة مختلف المحطّات الانتخابية، ولها ممثّلون في جُلّ مراكز الاقتراع، وصاغت تقاريرَ موثوقةً حول الاستحقاقات الانتخابية السابقة. ويُلقي استبعادها، بحسب ملاحظين، بظلاله على مدى نزاهة الانتخابات القادمة وشفافيتها.
ختاماً، كان بإمكان النُخَب التونسية تحصين التجربة الديمقراطية والعملية الانتخابية خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي، من خلال تنقيح القانون الانتخابي، وإرساء المحكمة الدستورية. لكنّها لم تفعل. ويبدو أنّ تدارك ذلك التقصير في هذا الزمن السياسي الصعب أمر قريب إلى المُحال أكثر منه إلى الإمكان.