عَقْلَنَة المَكان .. من قَحْط الحِمَى إلى بِنَاء وَطَن
الإنسانُ ثالثُ ثلاثةٍ في جدليّة "الإنسان - المكان - الزّمان"؛ فالزّمانُ وصفٌ لحركَتِه في المكان، وهو (الإنسان) نتيجةٌ حتميّة عند النّقّاد التّاريخيّين، من سانت بيف إلى هيبوليت تين، لثُلاثيّة: "البيئة، العَصْر، العِرْق"؛ إنّه ابنُ عَصْره وبِيئته وعِرْقِه، ولا يمكنُه تجاوز تأثيراتِها الّتي تشكِّلُه. وإذا صحّ ذلك، وهو صحيح في رأي الكاتب، فإنّ النّظر إليه مجرّداً من آثار علاقته بالمكان والزّمان إخلالٌ حقيقيّ بكلّ ما يُنتجُه ذلك النّظر من أفكار أو أحكام أو تصوُّرات. والاستثناءُ التّجاوزيّ لمَقُولةِ "العِرْق" ليس طَيّاً لأثره، إنّما إنكارٌ أخلاقيّ لقَوْلَة "النَّقاء العِرقي" الّتي تجاوَزها الواقع، ورفضٌ منهجيّ لمحاولة آرنست رينان تصنيفَ العُقول والشُّعوب.
هكذا، تَغْدُو حركةُ الإنسانِ في المكان تاريخاً له، وللمكان، وللحركةِ نفسها. وإذا كنّا نقاربُ المسألة من بابِ الذّات الجمعيّة (الأمّة)، فليس معنى ذلك إهمال رؤى الذّوات الفرديّة الّتي تعكسُ في مجموعها رؤية الأمّة، وتكشفُ عن القارِّ الثّاوي عميقاً في "عقليّتها" من تصوُّرات ومفاهيم وأحكام ومواقفَ هي ثقافتُها ووجدانُها والبرنامج العقليّ والنّفسيّ الّذي يؤطّر سُلوكها في الحاضر.
وبينَ ذاتيّة المكان (صورته النّفسيّة الماضَويّة)، وموضوعيّته (صورته الواقعيّة الحاضرة)، انتصرَ العربيّ على مدار التّاريخ للصّورة النّفسيّة، وهي صورةٌ شِعريّة مجازيّة عبّر عنها محمود درويش بقوله: "تَلْمَعُ حَبَّةُ اللَّيْمُونِ قِنْدِيلاً عَلَى لَيْلِ المُهَاجِرِ. تَسْطَعُ الجغْرَافِيَا كُتُبًا مُقَدَّسَةً، وَسِلْسِلَةُ التِّلَالِ تَصِيرُ مِعْرَاجاً". ولا تكادُ تجد فارقاً بين هذه الكثافة المجازيّة وقول الأعرابيّة الطّائيّة تتشوّق بلادَها: "وَأَوَّلُ أَرْضٍ مَسَّ جِلْدِي تُرَابُهَا". إنّه موقفٌ يجسّد الحنين إلى الماضي (الصُّورة النّفسيّة). ومثلُهُما وطن ابن الرّومي: "وَلِي وَطَنٌ آلَيْتُ ألَّا أَبِيعَهُ"؛ فالّذي يُحبِّب المرء في وطنِه: "مَآرِبُ قَضَّاها الشَّبَابُ هُنَالِكَا". وإذا كان الإيجازُ يقتضي إطلاق "الحِمَى" على المكانِ عنوانًا لصورته النّفسيّة، فإنّه يقتضي تسميتَه (الوَطَن) تجسيداً لصورتِه الواقعيّة، وهو تأسيسٌ نراه رصيناً.
النّظر إلى الإنسان مجرّداً من آثار علاقته بالمكان والزّمان إخلالٌ حقيقيّ بكلّ ما يُنتجُه ذلك النّظر من أفكار أو أحكام أو تصوُّرات
يتّصل "الحِمَى" بمفاهيم: الحِمَايَة، والحَمِيَّة، والحُمَاة... القائمةِ على الذَّوْد والرَّدّ وَالنَّخْوَة والانتصارِ لِحِمَى القبيلة الَّذي هُو كلّ أرضِها ومالِها ومائها وكَلَئِها؛ كلّ ما فيه من بشَرٍ وشجَرٍ وَحَجرٍ وماء وهواء وصَيد، حاضراً بالرّاهنِ، وماضياً بالإرثِ مَجداً وانتساباً، وثأراً وانتقاماً، وحِلْفاً وتكَثُّراً. والعقد الاجتماعيّ القبَليّ قوامُه: فردٌ يذُوبُ في قبيلةٍ تعُدُّه في مقامِ كلِّها؛ فإذا رأتْ رَأى، وإذا عَمِيَت يَعْمَى. وهو ما تؤشِّرُه غَزِيَّةُ في قول دريد بن الصِّمَّة: "وَمَا أنَا إِلَّا مِنْ غَزِيَّةَ، إِنْ غَوَتْ/ َغوَيْتُ، وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدِ".
طالَت علاقةُ العربيّ ببيئةٍ صَحراويّة قليلةِ الماء والكَلَأ، يتتبَّعهما في حركته داخلَ الحِمَى. فإذا قلَّا فيه تحوَّل إلى غيرِه. وحركتُه في الحِمَى جَماعيّة؛ قد ينتقلُ الحيُّ بأكمله، وقد تتشعَّب به الطُّرقات فتَنشَعِب القبيلةُ شُعوباً. والقَحْط سببٌ رئيس في الحَرَكة، وهكذا مع كُلّ موطنٍ جديدٍ لا يُقيم فيه إلّا ريثَما يتحوّل. هذه الحركة كانت ضروريّة لمواجهة وطأة الزّمان الّذي يأتي على الأعمار فيُهْلِك، لكنّها أيضاً تجسيدٌ لإفناءِ مقدّراتِ المكان، ولولا ذلك لأقامَ أهلُه ولم يُغادِروه.
وثمّة صُورٌ مُغايرةٌ لهذا التّصوُّر في البيئة العربيّة، لكنّها نادرة؛ فثمّة قُرًى نشأت عن استقرار مجموعاتٍ من شظايا قبائل، شكّلت في ائتلافِها تجمّعاتٍ من شتاتٍ؛ كيثرب الّتي سكنَها بعضُ اليهود، وبعض الأزد (الأوس والخزرج)، وبعض مُهاجِري قريش. ولولا عمل أكثر أهلها في (الزّراعة) لما أقامَ هؤلاء مُجتمعاً. والأمرُ في مكّة شبيهٌ: استوطنَتها فروع من عدّة قبائل حول ماء زمزم، وأطافت بالكعبة، واستحضرت فيها نماذجَ مكبَّرة من أصنام العرب لتكونَ مَهْوَى أفئدتهم، وعملت في التّجارة، وأقامت أسواقاً في الطّائف وغيرها، وموسماً جامعاً (الحجّ). هذه أمثلةٌ على بيئات قابلة للاستقرار؛ نُمِّيت فيها الموارد بالزّراعة أو التّجارة والأسواق. وفي غيرِها كان العربيّ يُقيم حتّى "يَقْحَطَ المَكان" هو وأنعامُه، ثمّ يُغادرُه، وحينما يقرُصُه الحَنين يمرُّ به وَيَقِفُ صَحْبَه وناقتَه، ويبكي ذكرياتِه.
ومع أنّ بعضَ العرب مارسوا التّجارة والزّراعة، فصُورة العربيّ الرّاسخةُ هي أنّه: بدويٌّ يرتَحل، بيتُه غالباً من شعَر أو وبَر أو شَجر، ونادراً من مدَرٍ أو حَجَر، بما يعكس نمطَ حياتِه، وأنّه يأنفُ من المِهَن، وجلّ عمله: الصَّيد، والتّجارة، والغزوُ، واستخدامُ الرُّعاة لتنمية ثروتِه الأصيلة: الإبل. وهي ثروةٌ تستلزمُ الانتقال تبعاً لوفرة الماء والكلأ. ومثّل المرعى ونباتُه، والإبل بتفاصيلها ونتاجها وأطوارها، والحيوان مُفتَرِساً ومَصِيداً ورَكُوبةً، والمياه والرّياح وأنواء السّماء- الحقولَ الكُبرى من معجمِ العربيِّ في ذلك الزّمن، وصحبَهُ معجمُه هذا حين تكوّنت الحواضر، وتأسّست الدّولة.
يتّصل "الحِمَى" بمفاهيم: الحِمَايَة، والحَمِيَّة، والحُمَاة .. القائمةِ على الذَّوْد والرَّدّ وَالنَّخْوَة والانتصارِ لِحِمَى القبيلة الَّذي هُو كلّ أرضِها ومالِها ومائها وكَلَئِها
كان كُلٌّ له حصّته من الماء والكلأ في الحِمَى، بلا تنميةٍ للموارد إلّا بالتّناسل والصّيد. واقترنت الخَيلُ بالإبلِ، هذه للصّيد وحمايةِ للحِمَى وغَزْو غيره، وتلكَ عِدادُ الثّروة، وللنّقل والارتحال. وهي وسائل الإنتاج الأصيلة، فمن امتلكها، وامتلك العدد الكافي للحماية والغزو كان من "جمَرات العرب". والنّاقة: يحلبها، ويستولدُها، ويتنقّل عليها، حتّى إذا أسنَّت وانقطع نتاجُها، نحرَها، فأكلَها، واستعمل وبرها وجلدَها بما تقتضيه طبيعةُ الحياة. حتّى مكّة الّتي استدرَّت قريشٌ فيها ثرواتِ الحجيجِ بالمناسِك والتّجارة، تقاسَمت عشائرُها الثّروة والصّلاحيّات، وكان جهدُ "ناديها" الّذي ضمّ ممثِّلي العشائرِ تنظيمَ توزيع الثّروة، وتقاسُمَ الصّلاحيّات. وفي التّاريخ رواياتٌ كثيرة تصفُ صراعاتٍ طويلةً في المدينة بين الأوس والخزرج واليهود، وفي مكّة بين مكوِّناتها القبليّة .. أوجزُ عبارةٍ يمكنُ وصف المشهد بها: استنزافُ الموارد الطّبيعيّة بالدّرجة القُصوى.
ولم يختلف الحالُ كثيراً حين امتدّ العرب خارج الجزيرة؛ فقد ظلّت القبائلُ في جيوش الفُتوح ماثلةً، وتقاسَم أبناؤُها البلادَ المفتوحةَ وأقامَ كلٌّ في حِمَاه. اصطحبت القبيلةُ ثقافتَها معَها، وإن تحوَّرت بدخولها في الإسلام، واستيطانها بلاداً وفيرةَ الموارد. وتصف الرّوايات محاولاتٍ عسيرةً مارسَها العربيّ البدويّ للتأثير في ثقافة الحواضر كالكُوفة والبصرة وبغداد. توسَّعَت بضاعتُه قليلًا لتشملَ الثّقافةَ، فأصبح يُلقي النّوادرَ والأشعار والطّرائفَ مع ما يبيعُه. وحينما ترسَّخَت الدّولة، وتقبّلت المتعرِّبين بالثّقافة، ضجّ أولئك، وثارت الشُّعوبيّات، ودافعَ مثقّفون كالجاحظ عن العرب قُبالة الشُّعوبيّين، واختارَ المفضّلُ وغيرُه قصائدَ من شعر العربِ تؤكِّد القيم البدويّة في الحياة الجديدة.
ولم تكُن الدّولة النّاشئةَ دولة تنمية موارد وابتداع وسائل إنتاج جديدة. غاية ما في الأمر: استنزاف الموارد الجديدة بالخراج والضّرائب والرّسوم، في دولةٍ ريعيّةٍ كالقبيلةِ في حِمَاهَا، استقطبت الحرفيّين وأهل الصّنائع، وأقامت أسواقًا كُبرى ضمّت الصّفّارين والعطّارين.. وتأسّست فيها المكتباتُ ودور العلم والعبادة والمستشفيات، وصارت لها تجارة مع دُول أُخرى.. لكنّ العقليّة النّافذة فيها لم تتجاوَز قولةَ هارون الرّشيد: "أمطري حيثُ شِئتِ، فإنّ خراجَك عائدٌ إليّ". ظلّ كُلٌّ يريدُ حصّته من الدّولة، ومن ثروتِها، وظلّ السّلطان (شيخ القبيلة) يُعطِي ويمنَع. لا تنمية للموارد ووسائل الإنتاج، إنّما استنزافٌ للمكان كلّه.
التحوُّل من مفهوم الحمى إلى مفهوم الوطن يشبهُ الانتقال إلى الدّيمقراطيّة في المجتمعات الّتي عرفت لوناً واحداً من ألوان الحياة السّياسيّة
والتّحوُّلُ من طورٍ ارتبطت فيه العقليّة العربيّة بمفهومِ الحِمَى إلى طورٍ يُقاربُ المكان بصفتِه وطناً يحتاجُ إلى عكس ما تقدّم، والبناء على مُقتَضَيات هذا التّحوُّل. المسافة بين الحِمَى والوَطن ليست مستحيلةَ الاجتياز في الواقع، لكنّ عُسْرَها كامنٌ في الأذهان. وأهمّ هذه المقتضيات تغيير النّظرة إلى المكان، أي: عَقْلَنَة المكان؛ ليُصبِح مَنظُوراً إليه في واقعه الحاضر، وما يمكنُ أن يُصبح عليه في المستقبل: موقعه الجغرافيّ والسّياسيّ، وحُدوده، وساكنوه، وثرواته، وتنمية موارده البشريّة والطّبيعيّة، والدّفاع عنه، ومنظومة العلاقات الّتي تجمعُه بمُحيطيه: القريب، والبعيد، وحُسن إدارة هذا كُلّه.
تأسيس الوطن، بالانتقال من مفهوم الحِمَى، لا يمكنُ تحقيقُه من دون تأسيس الوعي العميق بالمجال العامّ، وتمايُزِه عن المجال الخاصّ، مع الإيمان بالعلاقة الجدليّة بينهما؛ إذ العامُّ فيه مصلحةُ الخاصّ، ولا بدّ للمرء من التّنازُل عن جزء أساسيّ من خاصِّه ليتكوّن العامّ، فهو يُسْهِمُ في تكوينِه، وفي حمايتِه، ويمنحُهُ بما يعُودُ عليه نَفْعُه. وبذلك تختلفُ النّظرةُ إلى الوطنِ عن نظرةِ استنزافِ الموارِد، وانتظارِ الرَّيع. الوطنُ ليلك، لا هو لي، ولا هُو لك. والتّنميةُ ليست بما توفّره قوانينُ الطّبيعة وثرواتُها من تَناسُلِ بهائم، وفوسفات خامّ، ومعادن، إنّما مِهَنٌ وَحِرَفٌ ومهارات، وَزِرَاعَةٌ وصِناعة، وتربيةٌ وتعليمٌ وارتقاءٌ بالعقولِ والوجدان، واهتمامٌ بالبيئة الطّبيعيّة والاجتماعيّة والعلميّة والثّقافيّة، وتمكينٌ للإبداعِ والابتكار والاختراع، وتقديرٌ للجهود ومكافأةٌ بالاستحقاق .. هذا إلى تعظيم الجوانب الإنسانيّة والحقوقيّة والتّطوّعيّة، وتشريع الباب للرّأي والاختلاف والتّنوّع، وغلق الباب أمام الإقصاء والتّهميش والصّراعات الفئويّة والإثنيّة والطّائفيّة والمذهبيّة والدّينيّة..
التحوُّل من مفهوم الحمى إلى مفهوم الوطن يشبهُ الانتقال إلى الدّيمقراطيّة في المجتمعات الّتي عرفت لوناً واحداً من ألوان الحياة السّياسيّة، قائماً على العُنف والكبت والرَّدع والاضطهاد والقوّة المتسلّطة. الاعتراف بالجميع، وفتح الباب للجميع للإسهام في بناء الوطن، وتقدير كلّ جهدٍ يُقدَّم في هذا السّبيل، ومكافأته. من هذه النّقطة الحسّاسة جدّاً يمكنُ البدء، وعليها يمكنُ البناء، حتّى لا يكونَ الحنين وعكةً صحّيّة، ويبقى ألصقَ بالحاضرِ المُجْهِد المُثمِر، لا الماضي (المُتَخَيَّل) الحَالِم.