سلطة "وطنية" ذات مصداقية
واقع الحال يثير الإعجاب بمصداقية السلطة الوطنية الفلسطينية، ووفائها بالتزاماتها الدولية في اتفاق أوسلو وملاحقه المعلنة وغير المعلنة؛ وثباتها المدهش على موقفها بتبني المفاوضات حلا أوحد مع الدولة العبرية، هذا مع كل ما أبدته حكومات الاحتلال المتعاقبة من رِدة على "أوسلو"، ورفض رسمي علني لحل الدولتين، وهي لحل الدولة الواحدة أشد رفضا، وتنكرِها لأي شكل من أشكال الكيانية للفلسطينيين، وممارستِها انتهاكات صارخة لحقوقهم، ومصادرتها الدائبة أراضيهم، فضلا عن إقامة مستوطنات جديدة، أو توسيع القائم، وتحديث بؤر أعلنت ذات حين "غير شرعية"، والسعي لتهجير الفلسطينيين من أحياء في القدس، والخان الأحمر... أليس في إصرار هذه السلطة "الوطنية" على موقفها ما يثير الدهشة والعجب؟
ولعلّ واقع الحال نفسَه يَشي بأنّ هذه السّلطة تتعاملُ مع كلّ ما تقدّم بصفتِه "فُرَصًا"، تُطيلُ بها ديمومتَها، وترسِّخ به سُلطويّتها على الشّعب الفلسطينيّ بالتّفنُّن في فرض الرّسوم والضّرائب والجماركِ، وتستدرُّ به بعض التّعاطُف الرّسميّ الدّوليّ، وتتغلّب به على منافسيها (؟) من حركات وتنظيماتٍ فلسطينيّة أُخرى؛ إذ يكفي القول مثلًا: إنّ الإصرار على شَرْط تخلّي حركتي الجهاد الإسلامي وحماس عن السّلاح لتحقيق المصالحة الوطنيّة ليس بعيدًا من غاياتِ حكومات الاحتلال نفسها.
ولعلّ أهمّ ما تحقِّقُه هذه السّلطة "الوطنيّة" بما يجري هو تغوُّلُها على منظّمة التّحرير الفلسطينيّة الّتي أُفرِغَت مؤسّساتُها من مضمونِها، وأصبَحت مهزَلةً بيدِ السُّلطَة، ويكفي هنا أنَّ رئيسَ السُّلطَة "الوطنيّة" هُو رئيسُ دولة فلسطين على الورق، وهو رئيس اللجنة التّنفيذيّة لمنظّمة التّحرير الفلسطينيّة، ورئيس المجلس المركزيّ لحركة فتح، ومع أنّه في الثّامنة والثّمانين من عمره الطّويل، فإنّه ما زال قادرًا على إلقاء الخطاباتِ، ويتمتّع برُوح الظّرافة في إلقاء "النُّكَت"، وفصاحةً عجيبةً في "توزيع الشّتائم" على الدّول الصّديقة والعديقة والشّقيقة. والعجَبُ العُجابُ من رئيسٍ يملك كل هذه الصّلاحيّات ويُمارسُ فُنون "الاستجداء" بغير مهارة (مش بتحموا الحيوانات؟ طيّب احمونا)! والّذي يليه في الرُّتبة الآنَ هو رئيس الهيئة العامّة للشّؤون المدنيّة برتبة وزير، وأمين سرّ اللجنة التّنفيذيّة للمنظّمة، وعضو اللجنة المركزيّة لحركة فتح، وكان منذ سنة 2007 رئيس لجنة التّنسيق المدنيّة العليا مع الاحتلال.
أصواتٌ تُنادي بضرورة الفصل بين السّلطة الوطنيّة الفلسطينيّة ومنظّمة التّحرير
ومع إعلان حكومة الاحتلال منذ أيّام عن رغبتِها بالمحافظة على السّلطة "الوطنيّة"، وديمومة بقائها وتقوية سلطويّتِها، وأنّ هذه الغاية تخدمُ دولة "إسرائيل"، من جانب، وتكذيب حكومة الاحتلال خبر وقف التّنسيق الأمنيّ، من الجانب الآخر، تُدهِشُك الأصواتُ الّتي تطالبُ سلطة أوسلو بموقفٍ مختلفٍ، أو لترفع سقفَ "خطابها" في أقلّ تقدير، وأصواتٌ أُخرى تُؤمنُ بإمكانيّة تحقيق مصالحةٍ وطنيّة في ظلّ هذه السّلطة "الوطنيّة"، مع أنّ المقاومة الجديدة أصبحت عابرةً للفصائل، وجسّدت تلاحُمًا حقيقيًّا على مستوى الشّارع، متناسيةً ذلك المشروع المعلَّق بأيدي المنسِّقين الأمنيّين.
كانت ثمّة أصواتٌ تُنادي بضرورة الفصل بين السّلطة الوطنيّة الفلسطينيّة ومنظّمة التّحرير، وبين أجهزة السّلطة الّتي ينبغي أن تقف عندَ حُدودِ الشّرطة والإدارات المحلّيّة المدنيّة من صحّة وتعليم وزراعة... ومؤسّسات منظّمة التّحرير، مع الفصل الجذريّ بين المجلس التّشريعيّ والمجلس الوطنيّ، واللجنة التّنفيذيّة ومجلس الوزراء، ودوائر منظّمة التّحرير والوزارات... إضافةً إلى قَصْر دور السّلطة وأجهزتها ووزاراتها على الدّاخل الفلسطينيّ، وترك شؤون إدارة الوجود الفلسطينيّ داخلًا وخارجًا وقضيّةً لمنظّمة التّحرير... مع ما يتطلّبه ذلك من جِراحَةٍ مُتْقَنَة.
والآن، في ظلّ هذا الموقفِ الذي حمّل فلسطين والفلسطينيّين في الدّاخل والخارج أثقالًا وازنة، وأدخل القضيّة برمَّتِها في دَهاليز التّجارة ورأس المال ومراكز القوى والنّفوذ، بات مُلِحًّا السّعيُ إلى ذلك، وبغيره ستكونُ الكارثةُ أكبرَ.