الحياء والحياة
وكأنّ الفارق بين الكلمتيْن في حرف حسبُ، ولأنّ ناساً كثيرين يقصُرون الأولى في دارج كلامهم (الحَيَا)، وتعوّدوا نُطق التاء في آخر الثانية هاء (سوى اللبنانيّين)، تظهر الكلمتان كما لو أنهما لفظ واحد، وتتنوّع طريقة كُلٍّ في النّبر ليَميزَ بين هذه وتلك، فالضغطُ في الأولى يكون على الحاء مع خطف الألفِ في المقصور (الحَيَ)، ومَطل الألفِ في الثانية (الحَيَا). ولولا ذلك لاشتبهَتا في السّمع.
والكلمتان كلتاهُما من الجذر نفسه (حيي) كما التأمتا في معجم الدّوحة التاريخيّ، وهما على ذلك تنتميان إلى حقلٍ دلاليٍّ واحد، ليصبحَ التلازمُ أصيلًا بينهما في البنية اللغويّة المُعبِّرة عن بنيةٍ ذهنيّةٍ وثقافيّة، ويتأسَّس على ذلك التلازُم الثقافيّ تلازمٌ اجتماعيٌّ في المعَاش الاجتماعيّ أيضًا. هكذا، قد يخرجُ المرءُ بنتيجةِ أنّ الحياةَ بلا حياء محضُ ابتذال. ولعلّ هذا التلازم في لغة العرب ثقافيًّا، وضرورة التلازم بينهما أخلاقيًّا هو الذي جعل "الحياء شُعبةً من الإيمان" في الحديث النبويّ الشّريف.
والحياءُ في حركة الإنسان في الحياة مختلف تمامًا عن الخَجَل؛ فأمّا الحياءُ، فمن الاحتشام الذي يؤطّر حركة المرء في كلامه وفعاله بإطار العامّ النافع من الآداب، فلا يصدُر عنه/ منه إلّا ما لا يخدشُ سمعًا أو بصرًا. وأمّا الخجَل، فهو الاستحياءُ ممّا لا يُحتَشَم منه، مع نُكوص النفس عن الكلام أو الفعلِ في حيرةٍ ودهَش. وإذا كان الحياء يُعدّ في الأخلاق الحسَنة المحمودة، فالخجلُ خُلُق قبيحٌ مذموم.
العالمَ كلَّه يشهَد فورةً أخلاقيّة، وخاصّةً جيلَ الشّباب الذين وُلدوا أيّام الحادي عشر من سبتمبر (2001)، وبعدها بسنوات قليلة، ولم يتأثَّر وجدانُهم بما رُوِّج عالميًّا من حربٍ على الإرهاب
وكما أنّ الحياة ضروريّة ليتبدّى خُلقُ الحياء؛ فقد سبقَت في الوجود اللغويّ الثقافيّ وجودَ الحياء، إذ إنّ أوّل ظهورٍ للفظ الحياة سبق الإسلام بقرابة قرنيْن (200 ق.هـ)، ثمّ تلاها الحياءُ بعد قرن (100ق.هـ). وهذا مفهوم في سياقه التّاريخيّ والاجتماعي، فوجودُ الحياة سابقٌ على وجود الحياء، ولا يتنشَّأ الأخير إلّا في سياق اجتماعيّ يلزمُ فيه ائتلافُ مجموعةٍ من الناس في اجتماع وتعارفُهم منظومةً من الآداب والأخلاق العامّة؛ ليتمكّنوا من المحافظة على ما يجمعهم، ويجتنبوا ما يُثير فيهم الشّحناء والبغضاء. وحين يبلغ الاجتماع نُضجَه، يصبح الحياء لازمًا لاستمراريّة الحياة العامّة، فضلًا عن لزومه لمحافظة المرء على وجوده الأخلاقيّ، وصورته العامّة في مجتمعه.
هل يبدو للقارئ الكريم، الآن، انبتاتُ هذا التّنظير اللغويّ عن سياق ما يجري في الحياة العربيّة، بل العالم كلّه، منذ السابع من أكتوبر (2023)؟ لعلّ ما يجري، منذ ذلك التاريخ إلى اليوم، أثبت أنّ العالمَ كلَّه يشهَد فورةً أخلاقيّة، وخاصّةً جيلَ الشّباب الذين وُلدوا أيّام الحادي عشر من سبتمبر (2001)، وبعدها بسنوات قليلة، ولم يتأثَّر وجدانُهم بما رُوِّج عالميّاً من حربٍ على الإرهاب، وغزو أفغانستان والعراق، وبلبلة الدنيا وشُغل الناس. قد يكون بعضُ مجايلي الحرب الأميركيّة على فيتنام، في ستّينات القرن العشرين حتّى نهايتها، يستعيدون دوافعهم النفسيّة للخروج أيضًا، والوقوفِ في وجهِ ما يجري من أبشع حربِ إبادةٍ جماعيّة مُصوَّرة على الشاشات في القرن الحادي والعشرين. لكنّ هؤلاء جميعًا عبّروا عن التزامٍ أخلاقيّ إنسانيّ عالٍ، يمكنُ اختزالُه في الحَياء؛ الحياء من الصمتِ على ما يجري، والحياء من الاكتفاء بالفُرجة، والحياء من التّمييز العنصريّ البغيض، والحياء من تجسيد الكراهية بلا رادع، والحياء من التناقُض في تطبيق المعايير حتى معايير القانون الدولي، والإنسانيّ الدوليّ، ومبادئ الأمم المتّحدة، وميثاق حقوق الإنسان، والتجويع، والتهجير، والحصار، والقتل المنهجيّ والعشوائيّ، وامتهان كرامة المرأة، والطفولة، والعلم، وحريّة العبادة، وصيانة دور العبادة والمستشفيات والمدارس عن الاستهداف.
تجدُ من العرب والمسلمين من يُمارسُ "صَهْيَنَةً" علنيّة؛ يدعمُ الاحتلال، ويؤيّدُه، ويُساندُه بالمال والنّفط والغذاء
العالمُ كلُّه يقف أمام دولة خارجةٍ على القانون، عنصريّة بامتياز، تعيشُ أزَماتها وكراهيتها وأحقادَها وعُقدة إحساسها بالتفوّق (شعب الله) وفائض قُوّتها وجبروتها بلا رادع قانونيّ، أو وازعٍ أخلاقيّ، ثمّ تدّعي بأنّ جيشها أكثرُ الجيوش أخلاقيّة في العالم. وإزاء هذا كُلّه، تجدُ شعبًا صابرًا صامدًا مُثابرًا يبحثُ عن الحياة متمسِّكًا بكلّ لحظةٍ منها، يقاومُ ليعيش؛ لأنّه يحبّ الحياة إذا ما استطاع إليها سبيلًا. شعب تَعِب لكثرة ما جُرِّبت إبادتُه، ومُورسَ حصارُه وتجويعُه وسَجنُه وقتلُه وهدمُ بيوتِه على رؤوسه، وتقطيعُ أوصاله وأوصال أرضه ونهبها بالمصادرة والاستيطان. شعب تعبَ من حَمْل خيمتِه وبيت صفيحِه على ظهره، ومن توضيب "بُقَجِه" كلَّ حين. لكنّه مع ذلك يُريد الحياة، ويتطلّع إليها، ويحلمُ بها، ويُمارسُ منها أجمل ما تُتيحهُ الظّروف، وتمكّن منه القدرة والإمكانات.
ومع هذا كلّه، تجدُ من العرب والمسلمين من يُمارسُ "صَهْيَنَةً" علنيّة؛ يدعمُ الاحتلال، ويؤيّدُه، ويُساندُه بالمال والنّفط والغذاء، ويُعلي صوتَه مدافعًا عن "شرعيّة" الاحتلال و"حقِّه" في الأمن والبقاء والسّيطرة. مشهدٌ قاسٍ أن ترى "يهودًا" من أصقاع الأرض يتظاهرون مطالبينَ بوقفِ حربِ الإبادة، ولا دينيّين وعلمانيّين وبوذيّين ومن كلّ صنوفِ المللِ يرفضونَ هذا القهرَ الجارف، والدمويّة الفاجرة، وفي الوقت نفسه تجدُ مثقّفينَ وأكاديميّين، وبعض مفْتِي السّلاطين، وسياسيّين ودبلوماسيّين، عربًا ومسلمينَ، يُناصرون المحتلَّ الغاصب، ويؤيّدون حربَه غير المتكافئة، بل يُطالبُه بعضُهم بالإمعان أكثر (!)
حياءُ سلطة رام الله، هُنا ضروريٌّ للحياة بمعناها الأصيل، وهو البقاء، أن يبقى الأطفالُ وأهلوهُم على قيد الحياة
وأشدُّ من هؤلاء جميعًا فئةٌ من الشّعب الفلسطينيّ تُمارسُ أسوأ أنواع الكيديّة في حقّ غزّة وأهلها، وتُعلنُ عن مواقفَ يَندَى لها الجبين، ويَخزَى بها الفلسطينيُّ في العالم كلّه. وتتأمّل هذه المواقف من سلطة رام الله وذبابها الإلكترونيّ عبر مواقع التّواصل الاجتماعيّ، فلا تجدُ لها وسمًا يصلُح إلّا "طَقّ شِرْش الحَيَا" من بين عُيونهم!
ولو أنّ "قِلّة الحَياء" هُنا كانت ستبقى في نطاقِ النكاية والكيديّة والاستهداف، في غير هذه الظروف العصيبة على الناس في غزّة، لقُلنا: فليَفعلوا ما شاؤُوا، وليكونوا بلا حياءٍ تمامًا. لكنّ هذه المواقفَ، "قليلة الحياء"، نتيجتُها مزيدٌ من القتل والدماء والتشريد والحصار، وتلالٌ من العذاباتِ التي لن تفارقَ ذاكرةَ جيلٍ جيلين ثلاثة أجيالٍ من أهل غزّة، وغير أهل غزّة أيضًا.
الحياءُ، حياءُ سلطة رام الله، هُنا ضروريٌّ للحياة بمعناها الأصيل، وهو البقاء، أن يبقى الأطفالُ وأهلوهُم على قيد الحياة. ولو كانت سلطة رام الله على قدرٍ قليلٍ من الحياء، لكانت "ذاقتْ على نفسها"، وتوقّفت عن ممارسة الكيديّة بالردح والتحريض، والملاحقة والمطاردة والقتل لمُناصري غزّة وأهلها في الضّفّة الغربيّة، ولوقفت موقفًا صلبًا أمام العالم؛ لتثبتَ لشعبها (شعب فلسطين) أنّها جديرة بأن تقوده، لا جديرة بـ"القيادة" فقط.