نَكَد سُلطة أوسلو
أثبتت الشهور الأخيرة أنّ "سلطة أوسلو" تعيش حالة انفصالٍ تامّ عن الواقع الفلسطينيّ، تُظهر هذا مواقفها من الاجتياحات اليوميّة مناطق سيطرتها الأمنيّة، ومشاهد القتل والهدم والحصار وقطع الطّرقات بالحواجز وقطعان المستوطنين المسلّحين الّتي تجوب البلدات والقرى، وليس أخيرًا حرب الإبادة العنصريّة على قطاع غزّة، الذي تعدُّه جزءًا من اتّفاق أوسلو، وأرضًا فلسطينيّة لا تختلف عن الضّفّة الغربيّة.
ثمّة صمتٌ يشبه أن يكون موافقةً، إن لم يكُن تشجيعًا، على استمرار الحرب ضدّ قطاع غزّة وأهله (وهم مواطنون فلسطينيّون بالمناسبة)، وعددهم قريب من عدد سكّان المناطق الّتي تحكمُها سلطة أوسلو. لعلّ هذا مشهد تعوَّده المرء على مدار عقدين وأربعة حُروب على القطاع. غير أنّ المُثير للاشمئزاز غياب رموز هذه السّلطة عن مشاهد الفرح الفلسطينيّ (الحَيِيّ) بإطلاق سراح المعتقلين والمعتقلات أطفالًا ونساءً، والنسبة العُظمى منهم من مناطق السّلطة في الضّفّة والقُدس الشّرقيّة، لا من قطاع غزّة الواقع، بحسب السّلطة، تحت سيطرة حركة حماس. يعني: لا شيءَ يحول دون حُضور أيّ رمز من رموز السّلطة مشهد الفرح الفلسطينيّ بانفكاك هؤلاء من سجون الاحتلال، اللهم إلّا الموقف النّفسيّ العقيم، والتّدبير السّياسيّ الأشدّ عُقمًا. وكأنّ هذه السُّلطة تعيش حالةً من النَّكَد والحِرَان مستمرّةً، ولا شيء يُحزنُها أو يُفرحُها إلّا المفاوضات والتّنسيق الأمنيّ، والحضور الفارغ من أيّ مضمون لمؤتمرات جامعة الدول العربيّة، واللقاءات الدّوليّة، الّتي يستغلّها بعضُ رموزها (لالتهام الكاجو).
هل استشعر الفلسطينيّون في مناطق سيطرة السّلطة موقفها ذاك، فتصاعدت هتافاتهم "المماحكة" للسّلطة ورموزها؟ والسّؤال الأمرّ: هل استشعر رموز السّلطة موقف الفلسطينيّين الرّافض أصلًا وجودهم في تلك الاحتفالات، فآثروا تجنُّبَ الحرج الشّديد، أو ما هو أكثر منه وأنكى، لو أنّهم حضروا؟ ثمّة حدّ فاصل بين انتماء المرء لشعبه وقضيّته وانتمائه لمسار آخر ينأى به عن الشّعب والقضيّة. وكلُّ ما لا يصنّفُ المرءَ في الموقع الأوّل يُصنِّفه بالضّرورة في الموقع الآخر. إمّا أن تكون مع شعبِك وقضيّتك أو أن تكون ضدّهُما. ولا مجال هنا لموقعٍ ثالث، حتّى الّذي هو على خِلاف فكريّ، أو سياسيّ، مع "حماس"، لا يُتقبَّل منه الوقوفُ موقفًا سلبيًّا من خروج أطفال فلسطينيّين (الوصف هنا قانونيّ الصّيغة فقط)، ونساء فلسطينيّات من سجون الاحتلال، وإن تكُن "حماس" السّبب في حصولهم على الحُرّيّة.
يقول الواقع اليوم أنّ اتّفاقيّة أوسلو فقدت كلّ أسباب البقاء
حين يكون المرءُ في موقع المسؤوليّة الّتي فرضتها الظّروف، ورمزًا نضاليًّا، وقائدًا لشعب، بل "الممثِّل الشّرعيّ الوحيد" لهذا الشّعب، فأقلّ ما يقتضيه ذلك تصرُّفُه وفق هذه المسؤوليّة والرّمزيّة والقياديّة والانفراديّة بالتّمثيل، وأقلُّ التّصرُّفات التي تجسِّدها أن يقف مع أبناء شعبه في الظّروف كلّها: فرحًا، وأسًى، وحُزنًا، وفَقدًا، ونصرًا وهزيمةً بالتّأكيد. فهل هذا ما حدث (ويحدث) منذ عقدين تقريبًا؟
ما أظهرته الأحداث الأخيرة (لا الحرب على قطاع غزّة فقط) يثبت أنّ "سلطة أوسلو" تصدرُ عن وجدان مختلفٍ تمامًا عن وجدان الفلسطينيّين، وتعيش همومَها الخاصّة المختلفة بحال الواقع عن هموم الفلسطينيّين، وتعبّر عن إرادةٍ لا علاقة لها بإرادة الفلسطينيّين، وتنظر إلى مستقبل مُباينٍ لتطلُّعات الفلسطينيّين. إنّها، ببساطة، منفصلةٌ عن الواقع الفلسطينيّ، وتعيش منذ عقدين (كاتّفاقيّة أوسلو تمامًا) على ورقٍ، ولا شيءَ يعيشُ على الورقِ يبقى إلّا الأفكار العظيمة، والأحداث العظيمة، والشّعوب العظيمة.
ليس واضحًا ما إذا كان الحَراكُ الحاليّ سيقودُ إلى نهاية "سلطة أوسلو"، فبعضُ رموزها نجح في فرض نفسه عبر التّنسيق الأمنيّ ليكون رقمًا صعبًا، لكنّ الواقع يفرضُ أنّ اتّفاقيّة أوسلو نفسها فقدت كلّ أسباب البقاء. وبالتّالي، فقد الحلّ الموهومُ الذي فرضتْه على الفلسطينيّين كلّ مقوّمات الوجود. ولعلّ انتخابات قادمة تُطيحها ورموزها، وتمنح لفلسطين شعبًا وقضيّةً أملًا جديدًا في حلولٍ فذّةٍ ممكنةٍ واقعيّةٍ بدلًا من الأوهام.