عن تدجين الإعلام في تونس
الإعلام في الدول الديمقراطية قوّة تأثيرية ناعمة، وسلطة رابعة فاعلة، ترفد السلطات التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، وتتفاعل معها بالرقابة المستدامة، والتقصّي المفيد والنقد البنّاء. ويضمن الفضاء الإعلامي وفرة المعلومات، وحرّية التفكير والتعبير، ويساهم في تشكيل الوعي الجمعي وتوجيه الرأي العام. وتتمتّع وسائل الإعلام في الدول المتقدّمة بهامش معتبر من الاستقلالية، وتتميّز بتنوّعها وحرفيتها، وغالبا ما تعتمد الحياد والموضوعية في نقل الخبر، ووصف الوقائع وتحليلها، وكثيرا ما تكون ميّالةً إلى مقاربة الظواهر من وجهات نظر مختلفة تحقيقا للتعدّدية، وبغاية كشف الحقيقة وضمان النزاهة. والإعلام الموضوعي، المفتوح علامة نهضة وتقدّم، وأداة أساسية لنشر الثقافة الديمقراطية وبناء دولة المواطنين. والملاحظ في السياق التونسي منذ قيام ما يُعرف بدولة الاستقلال أنّ الجهاز الإعلامي بفروعه المختلفة ظلّ محلّ توظيف سياسي، فكلّ نظام حَكَم البلاد بذل المال والجهد، والقوّة والوقت لتدجين القطاع واستتباعه بغاية تكريس سطوته على الشأن العام وتهميش معارضيه على كيْفٍ ما.
تأسّس المشروع الاتّصالي للرئيس الراحل الحبيب بورقيبة على اعتبار الجهاز الإعلامي مؤسّسة تابعة للنظام الحاكم، مهمّتها الأساسية ترويج أنشطة "فخامة الرئيس"، وخصاله وأفكاره، وتقديمه في صورة "المجاهد الأكبر"والزعيم المخلّص من الاحتلال والفقر، والتخلّف والأمّية. وفي هذا السياق، يقول وزير الإعلام على عهده، مصطفى المصمودي، "كان بورقيبة يصنع الحدث، ويحرص على نشره وإبلاغه إلى الرأي العام. وكان يرفض جعل الصحافة مجالا للجدل السياسي، وفضاء للتناظر". ومن ثمّة، هيمن الرئيس على الإعلام المكتوب والمرئي والمسموع، واحتكر صورة القائد المؤسّس لدولة الاستقلال، ولم يسمح لمعارضيه من داخل الحزب وخارجه بأن يُدانوه في حجم الظهور ودرجة الوصول إلى الناس. وكان القصد بناء إعلام سلطوي/ أحادي، ألغى الصوت المخالف والرأي الآخر، واختزل الحقيقة والصوابية السياسية في ما ينطق به "الزعيم الملهم". لذلك دأبت صحيفة العمل، لسان الحزب الدستوري (الحاكم)، والتلفزيون الرسمي، والإذاعة الوطنية، على إنتاج خطاب سياسي/ ديماغوجي، مسكون بهاجس تقديس الرئيس، والتصفيق للحكم الفردي، وتشويه معارضي المنظومة البورقيبية. وفي هذا الشأن، قال الصحافي والمعارض السياسي محمد بنّور خلال شهادته أمام هيئة الحقيقة والكرامة (14/ 12/ 2018) "كانت وزارة الإعلام تعطي التعليمات لرؤساء التحرير بخصوص كلّ ما يقع في البلاد"، ما يعني أنّ الإعلام ظلّ تحت قبضة السلطة التنفيذية طويلا. وسئم أكثر الناس على التدريج توجيهات الرئيس المكرورة التي كانت تبثّ على شاشة التلفزيون يوميا، وملّوا البرامج المدحية التي كانت تتغنّى به، وتُثني عليه صباح مساء. وكان القصد منها شرعنة حكم الفرد مدى الحياة، وتزييف الوعي الجمعي. في المقابل، كانت الصحف والمجلاّت المعارضة القليلة، مثل: الرأي، الشعب، المعرفة، أطروحات، المستقبل، تجد صعوبات كبيرة في النشر والتوزيع والحصول على التمويل. وكانت تعاني، من حين إلى آخر، المصادرة، والغلق، والهرسلة والمنع بأمر من وزارة الداخلية، وذلك لجرأتها في نقد النظام الشمولي، ولإقبال القرّاء المكثّف عليها. ولكي يُحكم سيطرته على الإعلام، أصدر الحبيب بورقيبة قانون الصحافة (عدد 32/ 1975)، وهو قانون رقابي، زجري، قيّد حرّية التعبير، وكبّل الإعلاميين، وأرهبهم، وجعل أقلامهم مغلولةً، وأصواتهم مصادرةً على امتداد عقود لما تضمّنه من تدابير ردعية، أسهمت في تصحير المشهد الإعلامي، واستنزاف السلطة الرابعة.
هيمن الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة على الإعلام المكتوب والمرئي والمسموع، واحتكر صورة القائد المؤسّس لدولة الاستقلال
في عهد الجنرال المخلوع زين العابدين بن علي، أدمن الإعلام العمومي التونسي، والخاص، ممارسة دور الدعاية الفجّة لشخص الرئيس وحزب التجمّع الدستوري (الحاكم)، وكان جلّ الإعلاميين موظّفين لدى السلطة، مهمّتهم الأساسية صناعة إعلام موالٍ للزمرة الحاكمة، وتضليل المتلقّي عبر تزييف الوقائع، وترويج خطاب تمجيدي، ينأى عن مشاغل الناس، ويوغل في تعداد منجزات "صانع التغيير وحامي الحِمى والدين". وكانت معظم النشرات الإخبارية وواجهات الصحف اليومية تُفتتح بإبراز صورة الرئيس، وسرد أنشطته بطريقة مملّة، طاغيةٍ على المشهد الإعلامي، حتّى بدا كأنّ فخامته هو الوحيد الذي يبْذل جهدا، ويعْمل جادّا من أجل البلد! كما تمّ إحداث ما تعرف بوكالة الاتّصال الخارجي التي تولّت أساسا وظيفة انتداب صحافيين تونسيين وأجانب، لتلميع صورة النظام في الخارج، وتمّ صرْف أموال طائلة من جيوب المواطنين وخزينة الدولة لصالحها. في المقابل، غاب النقد الذاتي، وتمّ إقصاء أصوات المعارضين للدكتاتور، واعتقال مدوّنين وصحافيين وجرى التعتيم على الحراك الاحتجاجي في الحوض المنجمي، والجامعات، والمناطق الداخلية. كما تمّ فرْض رقابةٍ صارمةٍ على مواقع إلكترونية، وتمّ حجب كل موقع ناقد. وفي ظلّ سياسة التعتيم على الحقيقة، هجر جلّ التونسيين الإعلام الموالي للنظام، وأصبحوا يتابعون أخبار البلد من خلال مشاهدة قنوات تلفزية أجنبية (الجزيرة، المستقلّة، بي. بي. سي)، أو مطالعة صحف المعارضة التي كانت تجد صعوبات جمّة في التوزيع والتمويل (الموقف، الفجر، البديل، صوت الشعب، مواطنون، الطريق الجديد). وأدّى ذلك التدجين المنهجي للإعلام إلى أن احتلّت تونس أواخر عهد بن علي المرتبة 164 من مجموع 178 بلدا في ترتيب "مراسلون بلا حدود" لحرّية الصحافة في العالم.
ظلّ جلّ الحكاّم في تونس حريصين على استتباع الإعلام ضمانا لاستمرار سطوتهم. لكن يبدو أنّ الحناجر والأقلام التي أنبتتها الثورة عصيّة على التدجين
بعد الثورة (2011)، يمكن التمييز بين مرحلتين في صيرورة السلطة الرابعة في تونس، الحكم التعدّدي/ التوافقي، والحكم الأحادي (حكم الاستثناء). خلال المرحلة الأولى، عرف المشهد الإعلامي تحوّلات نوعية، فطوال "عقد الحرّيات"، تحرّر الفعل الإعلامي من الرقابة القبْلية، ومن وصاية قصر الرئاسة وسطوة وزارة الداخلية، وشهدت البلاد وفرة تعبيرية/ إعلامية غير مسبوقة، تساقطت معها جدران الخوف وحواجز الممنوع، وازدهر إعلام المواطن، وصناعة التدوين والصحافة الميْدانية والاستقصائية، وشاع نقد النظام الحاكم والشخصيات العامّة. وواكب ذلك ظهور نصوص تشريعية نظّمت القطاع نسبيّا مثل المرسوم 115(02/11/2011) الذي حلّ محلّ قانون الصحافة، وضمن للإعلاميين حرّية تلقّي الأخبار ونشرها، وحقّهم في النفاذ إلى المعلومة، والمحافظة على سرّية المصدر، ونصّ على ضرورة حمايتهم من التهديدات، وعوّض معظم العقوبات السجنية في حقّهم بغرامات مالية. وسمح بنشر الدوريات المطبوعة من دون ترخيص مسبق، وألزم الإعلاميين بضرورة تحرّي الشفافية والنزاهة. كما ضمن المرسوم 116(02/ 11/ 2011) حرّية قطاع البث، وتأسّست بموجبه الهيْئة العليا للاتصال السمعي البصري، وهي مستقلّة، تحظى بصلاحيات تنظيمية، واستشارية، وقضائية معتبرة. ذلك أنّها المعنيّة بقبول تراخيص العمل الإعلامي أو رفضها، وهي التي تراقب الإنتاج، وتشرف على التغطية الإعلامية زمن الانتخابات، وتفرض عقوبات على وسائل الإعلام، وتساهم في تسوية النزاعات في القطاع، وتقدّم توصياتٍ لتطويره. ومع أهمّية ما تحقّق من مكاسب في تلك الفترة، ظل المشهد الإعلامي محلّ تجاذبٍ بين الأحزاب الحاكمة والمعارضة، وكذا بين أنصار الثورة والثورة المضادّة، وتحوّلت جلّ الوسائل الإعلامية إلى منابر للدعاية الحزبية والعراك الأيديولوجي، وانخرط كثيرون في خطاب الإقصاء والإقصاء المضاد. وفهم بعضهم حرّية التعبير خطأ، فوظّفها لهتك أعراض الآخرين، ولم تبذل جلّ المنابر الإعلامية جهدا معتبرا لنشر الثقافة الحقوقية والديمقراطية. بل عمل بعضها تحت إمرة لوبياتٍ سياسيةٍ وماليةٍ ميّالة إلى تبخيس الثورة والاستثمار في الكراهية والتحريض على الغير. وأدّى نقص المهنية والحرفية وتهميش النزاهة إلى نفورٍ متزايدٍ من الإعلام المحلّي، وعودة الجمهور تدريجيا إلى اجتناء أخبار البلد من وسائل إعلام أجنبية. وتعزّز هذا النفور مع ظهور حكم أحادي على عهد قيس سعيّد، إبّان إعلانه إدارة البلاد بالمراسيم والتدابير الاستثنائية (25/ 07/ 2021)، وبسطه النفوذ على معظم السلطات، ففي زمن الاستثناء، تمّ غلق مكاتب وسائل إعلامية، وإيقاف صحافيين وإعلاميين ومدوّنين على خلفية آرائهم السياسية، وعنّف أمنيون مراسلين صحافيين وصودرت أدوات عملهم في أثناء تغطيتهم أعمالا احتجاجية معارضة للنظام الحاكم. كما وجّهت رئيسة الوزراء نجلاء بودن، منشورا (عدد 19 بتاريخ 10/12/2021) إلى الوزراء وكتّاب الدول يلزمهم "بضرورة التنسيق مع مصالح الاتصال برئاسة الحكومة بخصوص الشكل والمضمون بمناسبة كل ظهور إعلامي"، وهو ما يزيد من بيروقراطية السياسة الاتصالية للحكومة، ويعطّل العمل الإعلامي ويعسّر النفاذ إلى المعلومة.
أنكر قيس سعيد على إعلاميين وضعهم "الاستشارة الإلكترونية" التي اقترحها بين معقوفين، وقال ما مفاده بأنّهم يدمنون الكذب
أمّا رئيس الجمهورية، قيس سعيّد، فمعروف بمقاطعته وسائل الإعلام التونسية، لكنّه عبّر مرارا عن استيائه من عدم تصدّر النشاط الرئاسي النشرات الإخبارية، وتقديم "أخبار تافهة قبله"، وأنكر على إعلاميين وضعهم "الاستشارة الإلكترونية" التي اقترحها بين معقوفين، وقال ما مفاده بأنّهم يدمنون الكذب. وهو توجّهٌ يضمر رغبة ضمنية في استتباع الإعلام ووضعه تحت سيطرة السلطة التنفيذية. وتأكّد ذلك في تغييب القيادات الحزبية في التلفزيون العمومي الذي غلب عليه ترويج توجّهات الرئيس وأنصاره. وأفاد الكاتب العام لنقابة الإداريين والتقنيين بالتلفزة التونسية، وليد منصر، أخيرا بأنّ "أمنيين اقتحموا أستوديوهاتها، وقاموا باستجواب الأعوان وتهديدهم ليلة (12/ 01/ 2022)، لأنّهم كانوا يعتزمون تنفيذ إضراب"، وهو ما يعدّ تدخّلا سافرا من السلطة التنفيذية وقوّتها القامعة في الشأن الإعلامي.
ختاما، قال نابليون بونابرت: "لو أنّي تركت الصحافة تفعل ما تريد لخرجت من الحكم خلال ثلاثة أشهر". لذلك ظلّ جلّ الحكاّم في تونس حريصين على استتباع الإعلام ضمانا لاستمرار سطوتهم. لكن يبدو أنّ الحناجر والأقلام التي أنبتتها الثورة عصيّة على التدجين.