عندما يدّعون في ليبيا حرصاً على المصلحة العامة
"مجلس النواب في ليبيا حل أم مشكلة؟" عنوان مقال للكاتب نشر في "العربي الجديد" (17/9/2021)، تطرّق إلى العراقيل التي يمكن أن يضعها مجلس النواب الليبي أمام حكومة الوحدة الوطنية. وتناول في معرض الإجابة على السؤال أن "العصا التي يريد مجلس النواب في ليبيا أن يضعها في دولاب الحكومة متعدّدة الأذرع". كلما فشل ذراع استخدم آخر، وكلما نجحت الحكومة في اجتياز حاجز تفنّن النواب في نصب غيره. واختتم المقال بأن الأيام المقبلة ستكون كفيلةً بالإجابة على هذا السؤال. ولكن يبدو أن مجلس النواب لم يُرد أن يجعلنا نتوه في الإجابة، أو نطلق الخيال حولها، فأصدر قراره المثير للجدل والباعث على الاستغراب، سحب الثقة عن حكومة الوحدة الوطنية، مستخدما بذلك آخر أذرعه التي وضعها في دولاب عمل الحكومة، بعد أن فشلت كل محاولاته السابقة.
كانت البداية عندما حاول مجلس النواب استخدام أول أذرع عصاه التي يلوّح بها في وجه الحكومة، والمتمثلة في عدم منحها الثقة، محاولا تعطيل اعتمادها، في أكثر من مرة، معولاً على نفاد صبر رئيس هذه الحكومة، عبد الحميد الدبيبة، والذي يبدو أنه استفاد من تجربة سلفه، فايز السرّاج، في التعامل مع المجلس. وأصرّ على نيل الثقة عبر حضوره إلى مقر المجلس أكثر من ثلاث مرّات، استطاع من خلالها كسب ود نوابٍ كثيرين، سيما عندما أدرك أن تسويفهم وتردّدهم في الموافقة لم يكن سوى مناورة منهم للمساومة في الحصول على حقائب وزارية. وبالفعل، ومع أن اختيار الدبيبة حكومته كان جهويا بامتياز (باعترافه شخصيا)، إلا أنه ضمّن كثيرين من مرشّحي النواب في تشكيلة حكومته، ما اضطرّه إلى التوسّع في الوزارات والوكلاء إلى أن وصلت إلى أكثر من 35 وزارة و70 وكيل وزارة، في حكومةٍ من المفترض أن تنهي أعمالها في 24 ديسمبر/كانون الأول، في محاولةٍ لكسب ودّ ودعم أكبر عدد من النواب. وأفضت المحاباة إلى انتزاع الحكومة الثقة من المجلس، وبأغلبية مطلقة.
سحب الثقة من الحكومة سيُدخل ليبيا في منعطف سياسي معقد، ونفق لن تكون نتائجه في صالح الليبيين الذين استبشروا خيرا باختيار حكومة واحدة
لم يرُق الحال لرئاسة المجلس ولبعض من النواب، خصوصا الذين لم يكن لمرشّحيهم نصيب في تشكيلة الحكومة، فلا يمكن إرضاء مائتي نائب في الحصول على مناصب حكومية. وهذه على الرغم من التوسّع (المعيب) فيها، إلا أنها ظلت من دون استيعاب مرشّحي كل النواب. لم يرُق لهم ذلك، ولكنهم لم يفقدوا الوسيلة، ولم يستنفدوا العراقيل، فهي متعدّدة، وفشل إحداها لا يعني عدم جدوى الأخرى، فهي وضعت متسلسلةً حسب درجة فاعليتها، وتُرك سحب الثقة من الحكومة حلا أخيرا، معتمدين في ذلك على نصيحة "آخر العلاج الكيّ".
نجحت الحكومة الليبية في الحصول على ثقة مجلس النواب، لكنها فشلت في اعتماد قانون الميزانية، على الرغم من تعديل بنودها في أكثر من مرة، حسب ملاحظات لجنة المالية المنبثقة من المجلس، ما يُعزى إلى عدم تخصيصها مبالغ معتبرة وصريحة ضمن بنودها لقوات خليفة حفتر في الشرق الليبي، وذلك لم يعد سرّا، حيث صرح عنه رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، في لقاء إذاعي، قائلا "لم تُخصّص مبالغ معتبرة للقوات المسلحة، في الوقت الذي خُصصت مليارات للمليشيات في طرابلس"، مضيفا "يجب أن تكون للقوات المسلحة ميزانية لتقوم بمهامها، ولا زلنا نصرّ على ذلك".
ومع أن مُساءلة الحكومة من دون اعتماد الميزانية أمر غير منطقي، ولكنه حصل، وحافظ عبد الحميد الدبيبة على شعرة معاوية مع مجلس النواب، ومثُل وحكومته أمام البرلمان الذي كان يراهن على عدم موافقتها على ذلك، خصوصا وأن رئيسها انتقد قرار مجلس النواب، ووصفه بأنه "غير مقبول"، متسائلا: "كيف يمكن مساءلة حكومة، من دون أن تكون لها ميزانية". ومع هذا، وفي خطوةٍ غير متوقعة، سافرت الحكومة إلى طبرق، ومثلت أمام المجلس، واستمعت إلى ملاحظات النواب وتساؤلاتهم. وضاعت حجة البرلمان التي كان يعول عليها في عدم امتثال الحكومة للمساءلة. استمع النواب إلى ردود الوزراء، وقرّر المجلس تشكيل لجنة من النواب لمواصلة التحقيق مع الحكومة، على أن ترفع تقريرها إلى المجلس حال الانتهاء من أعمالها. وهنا أرجأ مجلس النواب البتّ في طلب بعض النواب سحب الثقة من الحكومة إلى حين الانتهاء من أعمال لجنة التحقيق، وعرضها على المجلس، في وقتٍ أكد فيه نوابٌ آخرون أن سحب الثقة غير مجدٍ الآن، على الرغم من كل عيوب الحكومة ومخالفاتها، نظرا إلى قرب موعد الانتخابات (ديسمبر/كانون الأول المقبل)، والفراغ الذي يمكن أن يحدثه ذلك الإجراء.
لو شعروا، الحكومة والوزراء والنواب، بالهمّ الوطني ومعاناة المواطن الليبي، لأدركوا أن الظروف غير مناسبة للمناكفات
ما أثار استغراب كثيرين أن جلسة أخرى عقدت، كانت مخصّصة، حسب جدول أعمال المجلس، لتشكيل اللجنة التي ستتولى دراسة ردود الوزراء ومناقشتها، حسب ما اتفق عليه في جلسة سابقة، إلا أن المثير أن الحاضرين فاجأهم طرح موضوع سحب الثقة، والمطالبة بالتصويت عليه، والذي لاقى استجابةً مباشرة من رئاسة المجلس، لتعلن بعدها سحب الثقة من الحكومة، بأغلبية الأصوات، وبواقع 89 صوتا من أصل 113 نائبا حضروا الجلسة، حسب ما صرّح الناطق الرسمي للمجلس. وكما هو متوقع، أثارت هذه الخطوة المتسرّعة جدلا واسعا، وردود فعل متباينة، اتفقت، على الرغم من اختلافها، على أنها ستدخل البلاد في منعطف سياسي معقد، ونفق لن تكون نتائجه في صالح الليبيين الذين استبشروا خيرا باختيار حكومة واحدة. وقد تؤدّي هذه الخطوة إلى رجوع البلاد إلى الانقسام السياسي والمؤسساتي الذي عانت منه فترات طويلة، والذي أدّى إلى إهدار المليارات من دون أن يكون لها أثر ملموس على الأرض من ناحية مشاريع البنية التحتية، أو تحسّن المستوى المعيشي للمواطن، أو تحسين مستوى الخدمات، بل على العكس لا تزال حياة المواطن، نهاراً، موزّعة بين طوابير الوقود والسيولة والبحث عن أسطوانات الأوكسجين لمرضاهم. وفي الليل، يقضي ساعاته بين انتظار الكهرباء والخوف من انقطاعها من جديد، في رحلة تعكس معاناتهم منذ سنوات، وبثمن يدفعونه مرغمين نتيجة المغامرات السياسية والعسكرية الفاشلة التي قادها، ولا يزال، متصدّرو المشهد.
على كل حال، استعمل مجلس النواب آخر ما يملك من أذرع يمكن أن يضعها في دولاب الحكومة، وهو يملك ذلك، ولكن ما لا يملكه هو المصير الذي سينتهي إليه بلدٌ ساهم، هو وغيره من الأجسام غير الشرعية، ومنتهية الصلاحية، في شدّه إلى الخلف سنوات. وكانت كل هذه الأجسام سببا رئيسيا في الانقسام والتشظّي والحروب التي راح ضحيتها كثيرون. أما مصلحة ليبيا، ومصلحة المواطن، والتمسّك بالشرعية، والتداول السلمي على السلطة، فهي مثل "قميص عثمان" يرتدونه متى أرادوا وحسب مصالحهم. ولو شعروا، الحكومة والوزراء والنواب، بالهمّ الوطني ومعاناة المواطن الليبي، لأدركوا أن الظروف غير مناسبة لهذه المناكفات.