شجبٌ وندب والتهام
يتّسم إخوتنا النباتيون الذين يعتبرون قتل الحيوانات جريمة بالمسالمة والرقّة ورهافة المشاعر. يؤمنون بحقها في الحياة من دون خطر، شأنها شأن الإنسان. يشكّل هؤلاء دائماً نسبة ضئيلة في أنحاء العالم، وهم أصحاب فلسفة غذائية تخصهم. وفي الأغلب، لا يعملون على فرضها على أحد، قد ينظّم بعضهم مظاهرات احتجاجية سلمية، يبلغ أقصاها إلقاء الحبر على معطف فراء دبّ أو ثعلب ترتديه فنانة شهيرة، وهي نمط حياة قد نتفق أو نختلف معه. وهذا شأننا بطبيعة الحال. يمكن تصنيفهم أنواعاً وأصنافاً ودرجات. هناك المعتدل منهم ممن يتسامح مع نفسه، فيأكل منتجات اللحوم من بيض وألبان وأجبان، ويأنف من فكرة تناول اللحوم الحمراء والدجاج، لكنه لا يمانع من تناول السمك، وهذا غير مفهوم، فالأسماك أرواح يجري قتلها كذلك، وهي تتكوّن من اللحم المشبع كثير الدهن. وهناك النوع المتطرّف الذي يرفض تناول أي صنفٍ من أصل حيواني، انسجاماً مع مبادئه الخاصة. أما النوع الأصولي المتشدّد، فهو لا يأكل سوى ما يتساقط تلقائياً من الأشجار المثمرة، من دون الاضطرار إلى قطفه وحرمانه أمه الشجرة.
في النهاية، هذه حرية شخصية ومزاج فردي بحت، غير أنها تصبح مزعجةً، حين تجتمع مع أحدهم على مأدبةٍ ما، فيباشر بالتنظير وإبداء التقزّز من مشهد أطباق اللحوم، ما ينزع شهيّتك ويسد نفسك ويحمّلك إحساساً طارئاً بالذنب. ومع ذلك، يبدو تبرّمهم من مشاهد ذبح الحيوانات مفهوماً، بل ومبرّراً، لأنها بالنسبة إلى قناعاتهم مشاهد مؤذية للمشاعر. أما غير المبرّر على الإطلاق، فهي الهجمة الموسمية من شجبٍ وندبٍ التي اعتدناها في كل عيد أضحى، يقودُها كثيرون من محبّي اللحوم الذين يتناولونها يومياً، بل ويفضلها بعضهم أقرب إلى النيئة يسحّ الدم منها حال غرز السكّين بها. وإذا ما وصل إليهم طبق "الستيك" ناضجاً أكثر من اللازم، ينتابهم الغضب، ويعيدونها إلى الجرسون غاضبين من مستوى النضج المبالغ به الذي من شأنه أن يجعل اللحم جافّاً فاقداً العصارة. يتناسى هؤلاء أن طبق الستيك الفاخر باهظ الثمن في المطعم ذي النجوم الخمسة، وهو في الأصل قطعة من لحم عجل صغير مذبوح! وأن الخروف الرضيع المشوي والمحمّر الذي يتوّج طبق الأرز محشوّاً في فمه ضمّة بقدونس خضراء يانعة، كان قبل ذلك يجري خلف أمه في المرعى، متوهماً أن الحياة جميلة وطويلة.
قد نتفهّم احتجاجهم على طقوس الذبح غير المتطابقة مع المعايير الصحية المطلوبة، من حيث البيئة النظيفة المغلقة. وقطعاً نتّفق معهم على ضرورة إعادة النظر في كيفية تنفيذ الإجراء بطريقةٍ أكثر رأفة بعيداً عن أعين الصغار غير المضطرّين إلى المشاركة في تفاصيل تظلّ مؤلمة مهما كان مبعثها، لأن إشراك الأطفال في طقوس كهذه ينطوي على سلوك قاسٍ تربوياً. ولا شكّ أنه يرتب آثاراً نفسية جسيمة على الطفل، لا يمكن تجاهلها. لكن غير المفهوم أبداً هذا التناقض والكيل بمكيالين والازدواجية السافرة في التعاطي مع الحالة نفسها، حين تحدُث في الأعياد والمناسبات السعيدة، وبشكل روتيني في الغرب غير المتوحّش. ففي عيد الشكر، في أميركا مثلاً، التي أُبيد أهلها الأصليون واستولِي على بلادهم واغتيلَت حضارتهم وهُمِّشوا وحُوِّلوا إلى مشهد فلكلوري متعة للسائحين على يد الرجل الأبيض، يُقتَل ملايين من الديك الرومي، الطبق الشعبي الذي يتناوله الأميركان بتلذّذ من دون أي اتهاماتٍ بالوحشية والتخلف والهمجية، بل ويبدي هؤلاء الإعجاب بتلك الطقوس الحضارية الجميلة، ما يدلّ على إحساسٍ دفينٍ بالدونيّة والانبهار تجاه كل ما هو غربي، وينطوي على واقعٍ عربيٍّ مؤسف، معاييره مزدوجة وبوصلته ملتبسة.
ما علينا، ليأكل كل منا ما يحلو له، وليعتقد بما يشاء، ولنكن ممتنّين للحياة التي هيّأت لنا هذه المساحة من الاختلاف والتنوّع من دون ضجيج مفتعل، وسلامتكم.