أحزان في غير صعيد

30 ديسمبر 2024

(ضياء العزاوي)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

في خضمّ أحداث غزة الدامية، من قتل وتجويع وتشريد ورضّع يموتون في العراء من شدّة البرد، وتوابع زلازل سورية من محاولات فلول النظام الهالك الفاشلة تنغيص أفراح الشعب السوري بخلاصه أخيراً من الطغيان والهوان، وفي أحزانٍ على المستوى الشخصي، إذ يحتضر قريب عزيز، ويعدّ في الوقت ذاته مراسم جنازته، وصديقة مقرّبة لا تقوى على البكاء رغم حزنها العميق، خسرت شقيقتها في الغربة، وصديقة غالية فرِحْنا بنجاتها من مرض خبيث، غير أنه سرعان ما عاودها من دون أن ينال من عزيمتها على المقاومة والتشبّث بالحياة، ضاربةً مثالاً رائعاً في الإيمان والصبر... في خضم هذا كلّه، يأتي من يقول لي بلهجة محايدة: "كفّي عن السوداوية والتشاؤم، لأن الحياة حلوة رغم كلّ شيء". نعم الحياة حلوة، كما قال فريد الأطرش في أغنية له، غير أنه أردف: "بس نفهمها". وهنا بالضبط مربط الفرس، أن نصل إلى مرحلة فهم الحياة بتعقيداتها ومتناقضاتها وتحوّلاتها كلّها، والقبول بشروطها غير العادلة في أحيان كثيرة، والتصالح مع اقتراحاتها، وتخفيض سقف توقّعاتنا منها كي لا نقع في الخيبة.
يبدو الأمر من الناحية النظرية ممكن التحقّق في حالة الرخاء النفسي، إذ تتوفّر أسباب السعادة، لكن إذا شئنا تحرّي الصدق، فإن من المستحيل أن ندرك معانيها والتيقن من جدواها، إذا ما تعمّقنا في التأمل وطرح الأسئلة التي عجز أعتى المفكّرين والفلاسفة عن حلّ كنهها، لأنها ستظل لغزاً عصياً على التفسير. لذا فإننا نخوض غمارها أملاً في لحظة تصالح وقبول واستسلام، وإدراكاً لعجزنا عن إحداث تغيير فعلي في مجرياتها، نظلّ نحبها من طرف واحد، نتلقّى ضرباتها المتتالية، ونتكيّف مرغمين لأنها أقوى من كلّ شيء، ولأنها تمضي في مسارها غير عابئة بنا، وكأنها تقول: "اضربوا رؤوسكم في مليون حيط، فقد ولدتم كي تموتوا في نهاية الأمر، لذلك اغنموا من الحاضر لذاته، فليس من طبع الليالي الأمان". اللحظة الراهنة هي كل ما تقترحه علينا الحياة، وقد رسمت لنا ملامح اختياراتنا المحدودة بالحاضر حصراً، فالماضي بأحزانه ومباهجه لم يعد ملكنا، وليس لنا أن نغيّر فيه أيّ تفصيل مهما كان قبيحاً، لأنه حدث وانتهى الأمر، والقادم مغلّف بالغموض والريبة والمجهول، ولا يشي إلا بالتوجّس والرعب والفقدان. طيب.. ما جدوى المراهنة على الحاضر وهو بهذه القتامة والوحشة والقسوة والظلم والسواد، أيّ خيار بائس هذا؟
قالت لي الصديقة التي عاودها المرض، وهي تحاول التخفيف عني عندما غلبتني دموعي، "أنا صابرة وراضية بمصيري، غير أني لن أكف عن محاولة النجاة لأنّي مثل سعد الله ونّوس محكومة بالأمل، وهو سلاحي الوحيد في مواجهة هذا الهول، سأظلّ أحبّ الحياة حتى لو لم يُقدَّر لي الشفاء، سأغادرها ممتنّة للحبّ الذي أحاطني به الأحبّة، لأنه هبة سماوية حظيت بها، ولن أفرّط فيها مهما حصل، وهو رديف الحياة وسرّها ومعناها، وحين تخلو الحياة منها، فإنها تستحيل قبراً من الصمت والفراغ والعتمة".
لعلّ ما طرحته صديقتي، التي تواجه أكبر معارك حياتها، ينطوي على كثير من الحكمة، تذكّرت عندها مقولة أرسطو إن "الحُبّ شوق لا متناهي إلى الخلود"، ومقولة ستاندال "الحُبّ أشدّ أنواع السحر فاعلية"، وتيقّنت أن الخلود بمعناه الرمزي العميق أمر ممكن الحدوث إذا حظينا بما يكفي من الحُبّ، حيث العزاء كلّه. عندها فقط تغدو الحياة ممكنةً، وقابلةً للفهم والإدراك والقبول. وعدْت نفسي أمام صديقتي أن أفسح مجالاً للأمل، وأن أكفّ عن هجاء الحياة، الذي ينطوي على كثير من العقوق، وأن أحرّض نفسي الحزينة على اقتناص لحظات الفرح الخاطفة كلّما جادت بها الحياة. لعلّ وعسى!

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.