محمّد آل رشّي ودرس الوفاء

23 ديسمبر 2024

محمد آل رشي في مهرجان البندقية السينمائي الـ80 (5/9/2023 فرانس برس)

+ الخط -

قصّة إنسانية مؤثّرة تدلّ على مدى نبل (وسمو) أخلاق أطرافها، كشف تفاصيلها الفنّان السوري محمد آل رشّي، وهو المناضل المُعارض للرئيس الهارب، المخلوع، حين طلب من الشعب السوري عدم التسّرع في إطلاق الأحكام على زملاء له التزموا الصمت قسراً إبّان قيام الثورة السورية المجيدة، وفُسِّر صمت بعضهم موالاةً للطاغية ونظامه المجرم، رغم أنهم لم يدعموا النظام بأيّ شكل، ولاذوا بالصمت من باب التقيّة.
قال آل رشّي في لقاء متلفز: "لا أحاول التبرير، لكن أرجو من أهل سورية ألّا يكرّروا سلوك النظام المجرم في التخوين والإقصاء. علينا تفهّم قدرات الآخرين وظروف معيشتهم، وألّا نفترض أن على الجميع أن يتصرفوا بالأسلوب نفسه".
وسرد آل رشّي القصّة مجسّداً فكرة الوفاء والاعتراف بالجميل، عندما كشف أن الممثّل القدير محمد حداقي آواه، في لحظة حرجة، في منزله، وساعده، رفقة الفنّان فارس الحلو، مغامراً بأمنه الشخصي، وباحتمالية تعرّضه لبطش النظام بسبب إيوائه ملاحقَين مطلوبَين، لو وصل إليهما أزلام النظام لاعتقلوهما، فتعرّضا لصنوف التعذيب سنين طويلةً في مسالخ الأسد. تمكّن حداقي من مساعدتهما في الخروج بسلام وأمان من الجحيم الأسدي، ليواصلا نضالهما في المنافي، وفي المحافل الدولية، متشبّثَين بمواقفهما المبدئية، متصدّيَين لسردية النظام الكاذبة، فاضحَين ممارسته الوحشية، حالمَين بلحظة الخلاص والعودة إلى أرض الوطن المنهوب، الذي حُرموا منه طويلاً، لأنهما فقط قالا كلمة حقّ في وجه الطاغية.
أشار آل رشّي إلى أنه ساعة اندحار مجرم الحرب، اتّصل أوّلاً بصديقه محمّد حداقي، واصفاً إياه بالملاك الحارس، معترفاً بفضله الكبير. وفي لقاء تلفزيوني مع حداقي، قدّم الفنّان المحترم الأصيل درساً في التواضع والشهامة والمروءة والشجاعة، وهو يداري ارتباكه وخجله أمام وفاء وصراحة صديقه، الذي تمكّن من ردّ الجميل بكشف التفاصيل الكفيلة بتبرئته من شبهة الموالاة المشينة، وبنيله احترام وتقدير الجميع.
قال حداقي: "أعترف بأن محمد آل رشّي ورفاقه كانوا أكثر شجاعةً منّي بظهورهم العلني، وقولهم ما لم أستطع قوله إلا سرّاً وسط دائرتي المقرّبة، عن خراب البلد وتعاسة الشعب. عشنا في حالة قصور في مواجهة استعلاء النظام الجائر، هذا ما استطعت تقديمه على تواضعه، ولا أنتظر عليه شكراً". وتحدّث في اللقاء بإسهاب عن أساليب الضغط التي مارسها النظام على الفنّانين، وعن تمكّنه من التهرّب من الزيارات الجبرية إلى قصر الطاغية لأداء ضروب الولاء والطاعة، متذرّعاً بحجج وذارئع كي لا يضطّر إلى الاصطفاف في جانب القاتل، واعترف بأنه كان مثل بقيّة السوريين محكوماً بالخوف، لأنه كان فاقداً صوته، ولم يعتد التعبير عن رأيه من قبل. وأضاف: "تعودّنا الصمت المطبق في جمهورية الخوف، حيث يتردّد المواطن في ذكر اسمه في فروع الأمن خشية ألا يروق الاسم للمحقّق" (!).
سنسمع في قادم الأيام قصصاً كثيرة مشابهة عاشها أبناء سورية الأحرار، تؤكّد وحدة الشعب السوري، وتضامن أبنائه، شركاء الهمّ والحزن والمقاومة والتصدّي والاغتراب والمنافي والغضب والأمل. لم يخلُ المشهدُ بطبيعة الحال من كثير من المنافقين، ممّن اصطُلح على تسميتهم سوريّاً بـ"المكوّعين"، وقد انقلبوا على أعقابهم بشكل متهافتٍ مبتذلٍ مكشوفٍ غير مقنع، وهم معروفون للجمهور الواعي، الذي لن ينطلي عليه خطابهم الذليل الكاذب، وقد وثّقت وسائل التواصل بالصوت والصورة وقائع ارتمائهم الجبان في حضن النظام المجرم، وتنكّرهم لعذابات شعبهم، الذي لم يكفّ عن الأنين، وتلويحهم بسيف الأسد الخشبي، وقد انكشف عنهم على غفلة الغطاء الهشّ، وباتوا في مواجهة مُذِلَّة مع تخاذلهم وتواطئهم وانتهازيتهم، وقد خسروا الكثير الكثير لو كانوا يفقهون.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.