شبابيك وأغنيات
جسّدت نجاة الصغيرة، بصوتها الدافئ الذي يقطر عذوبة وحناناً، حالة الشوق والانتظار، ضمن لحن راقص بديع (كلمات مرسي جميل عزيز، تلحين بليغ حمدي)، يختصر اللهفة والفرح والحب في مقطع "من الشباك وانا خدّي على الشباك أنا والشوق وناره الحلوة بستناك". في أغنيتها التي تكوَّنا عاطفياً على وقع كلماتها "أنا بستناك". أبكت الأغنية الشهيرة العاشقات المتواريات في بيوتهن، يتحيَّنَّ فرصة خروج العائلة، كي يهرعن إلى التلفون بفساتينهن البيضاء النفاشة ذات قصات الخصور الدقيقة، متشبهاتٍ بفاتن حمامة ومريم فخر الدين في أفلام الأبيض والأسود، كي يختطفن لحظة مسروقة في مكالمة هامسة خفيضة مع الحبيب، وهو في الغالب ابن الجيران الوسيم اللعوب الذي يشبه أحمد رمزي. كلمات أغنية نجاة كانت تذوّبهن وتبكيهن، وتشعل الوجد في قلوبهن الملتاعة، فيردّدن معها منتشياتٍ بالحب المتدفق في خلاياهن بدون حساب "وفرح الدنيا مستني معادي معاك يا أجمل ليلة في عمري حبيبي جاي...".
كتبن في ذلك الزمن البعيد الرسائل، بخطٍّ متعثر خجول، إلى برامج "ما يطلبه المستمعون" في الإذاعات المحلية، كي يهدين الأغنية بأسماء مستعارة إلى الحبيب الذي لا يغادر الشرفة، قبل أن يحظى بالتفاتة من بعيد، تحيل يومه إلى مهرجان من البهجة. كان ذلك في زمن مضى إلى غير رجعة، وصار صوت نجاة وبنات جيلها من المطربات إرثاً غريباً، وربما مضحكاً، بالنسبة إلى جيل مختلف المزاج، منزوع البراءة والرومانسية فقير الخيال، يقفز مبتهجاً على وقع أغنيات عمرو دياب الرتيبة، ذات الإيقاع الواحد الممل والكلمات السطحية. وحين تُبدي رأياً كهذا في أغاني الهضبة كما يسمّونه (لا أدري على أي أساس) يتهمك أولادك بالتخلف، وبأنك دقّة قديمة عاجز عن مواكبة مفاهيم عالمهم السريع الصاخب شديد التنوع، ويجعلونك تشعر بأن مكانك الطبيعي في المتحف بالقرب من عمالقتك الذين يرونهم مثيرين للكآبة، وينفرون ممّا يعتبرونها بكائيات ولوعة وحسرة وتفجعاً وتذللاً للحبيب قاسي القلب سريع النسيان.
التناقض بين أمزجة الأجيال حقيقة لا يمكن إنكارها. حدث أن هوجم محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ في بداياتهما، واعتبرهما بعضهم مصدر تهديد للمغنى الشرقي العريق، وألقيت حبات البندورة التالفة على عبد الحليم، حين غنّى أول مرّة أغنية "صافيني مرّة" على أحد مسارح الإسكندرية، واعتُبرت الأغنية فناً هابطاً رقيعاً من شأنه إفساد أخلاق الشباب!
وبمناسبة الحديث عن الشبابيك، اكتسحت أغنية أصالة الجديدة "غلبان"، وحقّقت نجاحاً كبيراً وتلقفتها النساء بحماسة، وانتشرت مئات مقاطع الفيديو لنساءٍ من مختلف الأعمار، وهن يؤدّين كلماتها على تطبيق "تيك توك" كل بطريقتها. والحق أن الأغنية جميلة، وتعلق في الذاكرة عكس معظم أغاني المرحلة التي لا تخلو من إسفاف. تقول أصالة في سياق الأغنية بلحن ساخر (لإيهاب عبد الواحد)، لا يخلو من التحدّي "ده فاكرنا هناك قال قاعدين جنب الشباك قال، يا تهيأتو!". لعل هذه الأغنية، على بساطتها، صالحة للتعبير عن واقع المرأة العربية الجديدة التي تخلصت في علاقتها مع الرجل من ملامح الضعف والخنوع، وتصرّفت معه بندّية وقوة شخصية، مؤكّدة أنها لن تحذو حذو جدّتها المقموعة مستلبة الإرادة، ولن تقعد على الشباك منتظرة مبادرة فارس أحلامها، بل إنها قادرة على إقفاله بالترباس، فيما لو مسّ الحب كرامتها. ستمضي في طريقها من دون أن تلتفت إلى الخلف، وستواصل حياتها وقد ازدادت قوة، متمرّدة متحدّية قادرة على الانتصار لنفسها، والمضي قوية واثقة، محققة ذاتها، عزيزة النفس متعالية على أحزانها، حرّة في اتخاذ قراراتها. وعلى الرجل المسكين، والحالة هذه، أن يغني لها "ومن الشباك لرميلك حالي"، علّها تعفو وترضى!