ريان لم يكن غيرنا
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
ماذا لو كان الشاعر محمود درويش حياً بيننا، وشاهد ما شاهدنا من لحظاتٍ تتأرجح بين الرجاء والدعاء والأمل ونحن ننتظر، بصبر طويل، خروج الطفل ريان من عمق البئر. ربما كتب قصيدة تحت هذا العنوان، أو أيّ عنوان جاذب، وقابل للحفظ، كعادة عناوينه الشعرية المدروسة جيداً والمتأمل فيها. لا أظنه سيغفل عن حادث إنساني عظيم، كهذا اجتمعت البشرية على لحظاته أولاً بأول.
هناك قصيدة لدرويش ضمن مقاطعها "خديجة لا تغلقي الباب/ لا تدخلي في الغياب". ونحن نعرف ما المقصود بخديجة هنا، كلّ قضيةٍ يقدّر لها ألّا تنسى أو تغيب هي خديجة. الطفل ريان كذلك تحول إلى موضوع كبير. لا يُمكن أن يُنسى، تأسّست عليه مشاعر لا حدود لها، ومن يتجرّأ على أن يبخس الناس مشاعرهم؟
كثيرون سهروا مع الأنفاس الأخيرة للطفل ريان وهو يودّعنا صغيراً. ولم يكن يعرف أنّ خارج البئر كانت حربٌ حقيقيةٌ تشتعل، فبالإضافة إلى الإعلام، بأشكاله وأنواعه، كان جيش من الحفّارين (الأبطال) يحاولون إنقاذه من بين براثن أكثر الجبال وعورة.
يجب هنا أن أسجل تحيةً لتلك السواعد الفولاذية التي سهرت على خروجه بأيّة حال أرادها الله. وقد زرت المنطقة مراراً، وكتبت يوماً نصاً بعنوان "شفشاون بريق الروح". زرتها أخيراً برفقة العائلة، وبرفقة محمود الريماوي والمرحوم محمد الباغوري وآخرين. وقديماً في التسعينيات، زرتها كذلك برفقة الصديقين عبد الجواد الخنيفي ومصطفى البعليش.
ما زلنا نكتب عن ريان الذي أحببناه من دون أن يرانا، وسيكبر حبّه معنا. رحل مخلّفاً مرارة يصعب ذوبانها. مرارةً حرمتنا النوم، بل حرمت الملايين. غير واحد اتصل بقناة "الجزيرة مباشر" التي كانت تفتح مجالها لاستقبال أحاديث الناس، قائلاً إنّه لم ينم سوى ساعتين من كلّ يوم من أيام البث، وقد ترك التلفزيون مشتعلاً.
وضعنا ريان في طريق رحلة مستحيلة. كنّا ننتظره في خارج البئر، في أكثر من مكان في العالم، لكنّ قدره كان يبقى في المكان نفسه. ربما ارتفع قليلاً في قبره الطاهر عن مستوى عمق البئر، لكنّه ارتفع عالياً في قلوبنا.
كم أبكيتنا، يا ريان الحبيب. وأنا أكتب هذه الأسطر غطّت الدموع زجاج نظارتي. ولا بدّ أنّها فعلت الفعل نفسه عند كلّ من كتب عنك. يتضح ذلك من الانفعالات الصادقة التي صاحبت كلّ تعبير عنه، سواء المقالات التي كتبت في منتصف طريق الحفر، أو حين أسلمتَ الروح إلى بارئها.
في القنوات التي صوّرت تفاصيل محاولات الإنقاذ، اتصل أطفال من أكثر من مكان. يُحسب لـ"الجزيرة" أنّها فتحت الأحاديث للناس. لذلك كان البثّ الطويل لعملية الإنقاذ يقترن بتدفق أحاديث الناس من مختلف البيوت في العالم العربي، وكأنما سيلٌ من المشاعر الصادقة الحارّة يحرك ذلك المشهد البطيء للحفر الجبلي الصعب.
جعلنا ريان نستمع إلى اتصالاتٍ من السودان واليمن، أكثر مناطق العالم العربي تهميشاً، نستمع إلى أصوات الأمهات والأطفال، إلى جانب أصواتٍ من مقيمين عرب في أوروبا. يجب أن تستمعوا إلى بعضكم بعضاً، قال لنا ريان قبل أن يفارقنا. وكانت السهرة طويلة شاقة استمرّت أياماً، لكنّها مفعمة بمعانٍ إنسانية لا حدود لها.
كلما أرى بئراً أتذكّر ريان. هذا الشعور يصعب تجاوزه بسهولة. لذلك لا يمكن التخلص بسهولة من المقالات الكثيرة وصيغ التعبير المختلفة التي انهالت منذ سقط الطفل في البئر. ولا يمكن تجاوزها كما نتجاوز أي خبر عابر، لأنّها حفرت عميقاً في دواخلنا، بالمقدار نفسه الذي حفر فيه الجبل الموازي للبئر التي سقط فيها ريان.
"يا جملة الكلّ/ لستَ غيري"، عبارة صوفية للحلاج، يخاطب فيها خالقه في تمازج حلولي. ريان كذلك لم يكن غيرنا، وقد اختاره الله إلى جانبه.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية