دولة أم "أكاونت"؟

11 مايو 2021

(ضياء العزاوي)

+ الخط -

في خطاباتنا، الاحتفائية والتبجيلية، إذا أردنا أن نصف كيانا افتراضيا بأنه فاعل ومؤثر وأكبر مما يمثّله، أو يتوقع منه، وصفناه بالدولة، فلان دولة، المؤسسة دولة، الحزب دولة، النادي دولة. .. الدولة هنا رمز لكل ما هو كبير وفاعل ومؤثر، و"حقيقي"، وهو ما أورثتنا إيّاه، على الأغلب، خطاباتٌ سياسيةٌ رسميةٌ تبالغ في تمجيد دور الدولة وقدسيتها، وتجعل منها إله المواطنين الذي يدينون له بولاء يتجاوز الانتماء إلى العبادة، الولاء المطلق، والطاعة المطلقة، والتضحية بكل شيء، من أجل لا شيء، ومن دون سؤال أو مساءلة!
تبدأ أحداث حي الشيخ جراح في القدس العربية المحتلة، وتستمر أياما، محاولات إجرامية لتهجير السكان الأصليين للحي، أصحاب الحق، والبيوت، والتاريخ، والعلامة الزمانية والمكانية، وإحلال مستعمرين، محتلين، مكانهم. فصل عنصري، وتهجير قسري، واعتداءات نالت من مئات، شهداء وجرحى، يحمون أموالهم وأعراضهم. انتزعت الأحداث الغفلة العربية عن القضية الفلسطينية من تفاصيل صغيرة وبائسة، بلا معنى، بلا قيمة، مجرد تفاصيل. "ملء هوا"، كما يقول المشتغلون بالإعلام، حين يعبرون عن محتوى فارغ من القيمة، ولا فائدة من ورائه سوى استهلاك وقت المشاهد في لا شيء، حتى يمر اليوم، وينزاح. ألقت بنا من جديد حيث ينبغي أن نكون، هناك، حيث قضيتنا المركزية، والسبب الرئيس في نكباتنا الداخلية، المحلية والإقليمية، منحت بيوت حي الشيخ جرّاح وأهلها للشهر الكريم معناه، للعبادة معناها، للصوم، والصلاة، والذكر، والدعاء، لانتظار ليلة القدر، وتحرّيها، ومراقبة السماء. كان صمود أصحاب الحق المقدسي في مواجهة آلة القمع الصهيونية خير من ألف شهر من العظات، المعلبة، المكرّرة، الميتة، بلا روح. نفخ المقدسيون من روحهم في أجسادنا الافتراضية، فصرنا هنا، وصار الوقت وقتا.
تجاوب العالم مع ما يحدث في حي الشيخ جرّاح، على الرغم من كونه عاديا، ويوميا، ومسبوقا، ومكرّرا، بالنسبة للفلسطينيين أنفسهم، وصدرت خطابات سياسية تحمل نفسا جادّاً، وتعاطفاً، وتضامنات، واستنكارات، أوروبية وأميركية. الكونغرس نفسه، (الآن مع جو بايدن)، تحرّك بعض أعضائه، من الديمقراطيين، تكلموا، غرّدوا، وصفوا ما يحدث بما يليق به: "تهجير قسري".. "نشر للعنف".. "فعل غير قانوني".. "انتهاك للقانون الدولي".. "تصرّف بغيض". أعلن أعضاء في الكونغرس تضامنهم مع الفلسطينيين، طالبوا إدارتهم بمطالبة إسرائيل بالتوقف عن تهجير السكان، أعلنوا بوضوح أنه ليس وقت البيانات الفاترة، وأن إدارة بايدن مطالبة بالتحرّك، إذا كانت، حقا، تضع سيادة القانون وحقوق الإنسان في صلب سياساتها الخارجية.
انتظرنا مساعي دبلوماسية حقيقية من أصدقاء المحتل في منطقتنا، خطابات على المستوى نفسه، بيانات قوية، وليست فاترة، كما حذّر أعضاء الكونغرس إدارتهم، تحرّكات دبلوماسية، ضغط، وساطات، هرولة إلى الحل، تماثل الهرولة للسلام الدافئ، والتطبيع، وتبرّره، انتظرنا، حقيقة لا مزايدة، فعلا يجعل للتطبيع مع المحتل وصفا آخر غير الاستسلام، والخيانة "حرفيا". يجعل منه إكراها سياسيا مبرّرا من وجهة نظر ما، فائدة ما يجنيها الفلسطينيون، تقلّل من خسائرهم، تحتفظ لهم ببيوتهم، بأرواحهم، بأرواح أبنائهم التي حصدتها النيران الإسرائيلية "الصديقة"، ولم نجد سوى بياناتٍ ماسخة، صمت القبور أكرم منها.. و"ملء الهوا" أفيد، وأقل إحراجا.
أين الإمارات، "الدولة"، ودورها الإقليمي، ومركزيتها، وفاعليتها، ووعودها بأن العلاقات "الحميمية" مع الصهاينة سوف تفتح بابا لمساعدة الفلسطينيين، بعيدا عن خطاباتنا العنترية والحنجورية والساذجة، وما شئت من نعوت الانتقاص؟ أين المغرب، وحكومتها "الإسلامية"، ووعودها المماثلة؟ أين مصر (والسؤال لا يخلو من كوميديا سوداء)، التي تبنّى رئيسها مزيدا من سياسات الاستسلام، وسمّاها سلاما، ودعا إليها، ورحّب بها، وشارك فيها، وبارك خطواتها، فأين هو، ودولته، وخارجيته، وماذا استفدنا؟ تحوّل النشطاء "الحنجوريون" إلى "دولة"، فوق الأرض لا الهتاف، دولة لها صوت، وجيش، دولة تقاوم، وتحمي بيوتها، وأرضها. وتجبر العالم، ومعه دول وأنظمة حليفة للمحتل، على احترامها، ومتابعتها، والاصطفاف معها، والمطالبة بحقوقها، فيما تحوّلت "دولٌ مزعومة" إلى "أكاونتات"، حسابات افتراضية، في واقع افتراضي، ترسل كلماتٍ تشبه الكلمات، وبياناتٍ تشبه البيانات، واستنكارات تشبه أصحابها، لزجة وباردة وبلا معنى.