أين نصرف هذا الغضب كلّه؟
أين العالم؟ وأين العرب؟ أين جيش مصر وثروات الخليج؟ أين الضغط العربي "السياسي" بأوراق المصالح المُشترَكة بين العرب والولايات المتّحدة؟ أين الخطاب العربي؟ مُجرَّد الخطاب؟ مُجرَّد الدعم بالكلام وليس بالفعل؟ كيف اختفى وحلّت في محلّه خطابات شيطنة المقاومة الفلسطينية ومطالبتها، صراحةً، بألا تقاوم، وتحميلها وحدها مسؤوليةَ إبادة غزّة؟ وهل من المعقول أن تحمل شاشات الأخبار مشاهدَ قصف المدنيين وقتل الأطفال وتجويعهم في غزّة، وفي الشاشات نفسها تظهر أجواء السمر والمرح وحفلات زواج الكلاب؟ ألا تستحق غزّة مُجرَّد إظهار الاهتمام، مُجرَّد إظهار الحزن، ألا تستحق هذه الدماء كلّها، وهذه الأشلاء والتضحيات كلّها، مُجرَّد التظاهر باحترامها؟
يرصد الباحث الفلسطيني محمود محارب، في بحث بعنوان "إسرائيل والثروة المصرية"، موقف بنيامين نتنياهو وحكومته من ثورة يناير (2011) في أثناء اشتعالها، فيذهب إلى الصحف الإسرائيلية، مباشرةً، وينقل عنها، ويضع في هوامشه روابط المقالات لمن يريد التأكّد والاستزادة.
كانت ثورة يناير بمثابة مفاجأةٍ موجعةٍ أربكت حسابات العدوّ الصهيوني، وأشعرته بالخطر الشديد من فقدان أكثر حلفائه أهمّية في المنطقة؛ حسني مبارك. تعامل نتنياهو مع الثورة المصرية بحذرٍ وخوفٍ شديديْن، وخصومةٍ شديدةٍ، ترجمتها إجراءات وسياسات، فأصدر توجيهاته إلى وزرائه، والناطقين باسم حكومته، بعدم التطرّق إلى ما يحدُث في مصر في وسائل الإعلام، حتّى لا تُساهم خطاباتُ دعم إسرائيل مبارك في تأجيج الثورة في مصر ("نتنياهو أمر الوزراء: لا تتحدّثوا بموضوع مصر"، "هآرتس"، 28/1/2011)، وفي الوقت نفسه، أرسلت وزارة الخارجية الإسرائيلية تعليمات إلى سفراء إسرائيل في أكثر من عشر دول مهمّة، مثل الولايات المتّحدة وروسيا والصين وكندا، وإلى دول أوروبية ذات أهمّية، وأمرتهم بالاتصال فوراً بالسلطات العليا في هذه الدول، والطلب من قادتها وقفَ انتقادِ الرئيس المصري مبارك ("إسرائيل في رسالة إلى العالم: توقّفوا عن انتقاد مبارك"، "هآرتس"، 31/1/ 2011). وحملت رسائل إسرائيل إلى قادة الغرب تحذيرات من أنّ رحيل مبارك سوف يُؤثّر في استقرار الشرق الأوسط كلّه، وقد ينتج منه وصول الإسلاميين إلى الحكم، وتحوّل مصر إيرانَ جديدةً تُهدّد أمن إسرائيل ("نتنياهو: قد تسير مصر وراء إيران"، "هآرتس"، 7/2/2011).
تتجاوز الرؤية الإسرائيلية الخوف من فقدان الحليف الأكثر أهمّية (مبارك)، والخوف من تحوّل مصر إيرانَ بيد الإسلاميين، إلى خوف ممّا هو أكثر من ذلك سيجيء إذا وصلت الديمقراطية إلى العرب. هكذا بوضوح، ومن دون مواربة، ينشر الصحافي والكاتب الإسرائيلي، عوفر شيلح، مقالاً بعنوان: "الديمقراطية ليست للعرب" ("معاريف"، 1/2/2011)، ويقول إنّه سمع من عشرات السياسيين والجنرالات "إنّ الديمقراطية ليست للعرب، وإنّهم غيرُ جديرين بها، وإنّ ما تحتاج إليه إسرائيل أنظمة حكم عربية مُستقرّة وغير ديمقراطية، وبكلمات بسيطة: نحن نريد حُكّاماً عرباً مُستبدّين يعتمدون على الغرب".
يسوق محمود محارب عشرات الأمثلة تُؤكّد عداء إسرائيل للثورات العربية، ولقيام أيٍّ من أشكال الوحدة بين العرب، ولوصول الديمقراطية إلى العرب، ودعم إسرائيل الدائم أنظمةً عربيةً مُستبدَّةً تعتمد على الغرب، ومن ثمّ يرتبط استمرارها بضمان أمن إسرائيل. من هنا يمكن الإجابة عن أسئلةِ ملايين العرب أمام مشهد إبادة غزّة: أين الأنظمة العربية؟... الإجابة بوضوح: الأنظمة العربية مع الطرف الذي يدعمها، الطرف الذي يضمن استمرارها، الطرف الذي يعتمد عليها وتعتمد عليه، مع إسرائيل. أجابت إسرائيل عن السؤال بوضوح في أثناء "الربيع العربي"، ثمّ عادت الأنظمة العربية لتجيب ببجاحةٍ في حرب إبادة غزّة: نعم، نحن مع إسرائيل.
هل انتهت القصّة؟... بل بدأت، ولن يلبث هذا الغضب كلّه، وهذا القهر كلّه، وهذا الشعور بالخذلان كلّه، أن يتحوّل انتفاضاتٍ شعبيةً، ليتها تتوقَّف عند حدود الثورات السلمية، وليتها تتوقَّف عند حدود العرب.