أمُّ كلثوم في بيت شيخ الأزهر
هذه قصّة مشهورة من عشرات غيرها، الفتاة الشابّة أمُّ كلثوم في أولى خطواتها في القاهرة، تتعثّر بسبب تحقيق صحافي رخيص يخوض في عرضها، فيكتب الشيخ مصطفى عبد الرازق (1947) دفاعاً عنها، وتبشيراً بصوتها، ويفتح لها، هي وعائلتها، بيته، ويساعدهم بقلمه وماله ونصائحه دعماً لصوت أمِّ كلثوم الذي وصفه شيخ الأزهر بأنّه نعمة من الله.
لا يعنيني، هنا، رأي الشيخ في الغناء والموسيقى، فهو معروف، إنّما حساسية العصر، قدرة الشيخ من دون حرج على الكتابة دفاعاً عن مطربة شابّة، وعن سمعتها، وعن صوتها، وتضمين مرافعاته كلاماً في الدنيا وكلاماً في الدين. الشيخ نفسه هو الذي تبرّع من ماله الخاص دعماً لتأسيس المسرح المصري، وهو أول من كتب، محتفياً، عن مسرحية "أهل الكهف"، لتوفيق الحكيم (نشرت في 1933)، أحد أبرز المدافعين عن العلمانية في مصر. أمّا توفيق الحكيم نفسه، فقد انشغل في كثير من كتاباته بالمعارف الإسلامية، فكتب عن الإسلام وعن نبيه وعن فلسفته "التعادلية"، وفق رؤيته، بل نشر الحكيم مختاراته من تفسير القرطبي، ونافح في مُقدمتها من موقع الفقيه القانوني، وكيلاً سابقاً للنيابة، عن العقوبات الجسدية في القرآن الكريم، واعتبرها أكثر واقعية وإنسانية من عقوبة السجن، من دون أن ينقص ذلك من وجاهة الكاتب "التنويري" بين أقرانه، أو ينقل تصنيفه الأيديولوجي (والقبلي) من خانة العلماني إلى خانات الإسلاميين، ومن لفّ لفّهم.
تكرّر الأمر نفسه عند عشرات الكُتّاب الليبراليين، منهم مثلاً محمد حسين هيكل (1956)، الشاعر والسياسي والأديب، خرّيج السوربون، الذي كتب أحد أشهر كتب السيرة النبوية في العصر الحديث "حياة محمّد"، ثمّ كتب "في منزل الوحي"، و"الصدّيق أبو بكر"، و"الفاروق عُمر"، إلى آخر إسلامياته، من دون قلق من رفاقه الشعراء والأدباء أو في حزب الأحرار الدستوريين، ومن دون حَرَجٍ أمام قارئه. ثمّة قصّة شهيرة تختصر ذلك كلّه، إذ تعرّض عبّاس محمود العقّاد (1964) إلى وعكة صحّية، وكان قد نشر "عبقرية محمّد"، فزاره شيخ الأزهر محمود شلتوت (1963)، وقام العقّاد لتحيته ليفاجأ بالشيخ ينحني ويُقبّل يدَه، الشيخ يُقبّل يدَ الأديب الذي كتب عن النبي من دون تخصّص، ومن دون شهادة، ومن دون إجازة، ليس ذلك فحسب، بل دعا الأزهر العقّادَ ليحاضر في جامعته، ويكتب في مجلَّته، ويرأس تحريرها، ثمّ ها هو الشيخ الأكبر يُقبِّل يدَه، ويقول: "إنّما أُقبِّل اليدَ التي خطّت عبقرية محمّدٍ، ونافحت عن الإسلام ونبيه". هكذا ببساطة، وهكذا بوضوح، وهكذا من دون تعارض مع مُتخيَّل (مُسمِّم) ورثناه من خطابات زمان التطرّف. الأمثلة كثيرة إلى درجة لا يستوعبها مقال أو حتّى كِتَاب، لكنّها تنتهي عند عتبة ثمانينيّات القرن الماضي، ليبدأ زمنُ آخر، لا يجوز فيه أن يُشاهَد شيخٌ في حفلٍ غنائي أو يُضبَط كاتبٌ علماني متلبّسٌ بأداء طقس ديني. ناهيك عن الاشتباك والكتابة والتنظير.
تذكّرتُ ذلك كلّه أمام سكوت عشرات الكُتّاب البارزين عن نعي الشهيد إسماعيل هنيّة، واقتراب عشرات آخرين من النعي اقترابهم من قنبلة يريدون انتزاع فتيلها، وتبرير آخرين نعيهم بمُذكِّرات تفسيرية تبدأ وتنتهي بنفي صلتهم بالإخوان المسلمين، وبحركة حماس، وبالإسلام السياسي، وتُؤكّد الاختلاف مع الشهيد وفصيله وفِكَرِه، وربّما شهادته، قبل أن ينعى الناعي "نعيّة" ويجري. وذلك كلّه من دون أن نتجاوز حدود التيّار الديمقراطي، على تنوّعه، وأقلامه "الحرّة" المحسوبة على ثورات الربيع العربي، إلى أقلام مسمَّمة بالكراهية، زايدت على شهادة الرجل، الذي مات واقفاً، وأعادت تدوير نفايات خطابات أنظمة التطبيع العربي على المقاومين كافّة، وخياناتهم وثرواتهم وملياراتهم وفنادقهم… إلخ.
"ويل للعالم إذا تبهيظ المُثقَّفون". لا أعرف معنى "تبهيظ"، ولا يعرفها المُصحّح الإلكتروني، الذي أرهقني كي يُقرَّ وجودها في صفحته الافتراضية، ولا أظنّ كاتبها الفذّ محمود أبو زيد، في فيلم "البيضة والحجر" (1990)، يعرفها. لكنّها في الأخير "علامة" تحمل "شحنة" زمانها، فالويلُ لعالَمِنا من فصامِنا، من ذُهانِنا، من رُهابِنا، والويلُ لنا.