حين ينشدُ "اليمينيون الجدد" بَعث اليمين!
تبدو بريطانيا البلدَ الأوروبي الوحيد الذي يشهد هذا العام تراجعا لشعبيّة قوى اليمين، سواء يمين الوسط أو المتطرّف أو الشعبوي. وضعٌ يأتي بعد نحو عقد ونيّف، قاد فيه المحافظون دفّة الحكم واحتفل صقورُهم والشعبويون بطلاق بريكست (الانسحاب من الاتحاد الأوروبي). إذ تُفيد استطلاعاتُ الرأي ومؤشراتُ نتائج الانتخابات البرلمانية التكميلية (الفرعية) والانتخابات المحلية بأنهم يسيرون حثيثاً إلى خسارة الانتخابات العامة مطلع عام 2025. لكن صقورَ يمينِ بريطانيا ينشدون الاستفادةَ من الميولِ القومية سياسياً والمحافِظةِ اجتماعياً في أوروبا. إنهم يلتمسون استغلالَ نموِّ النزعة اليمينية شرق أوروبا وغربها.
من الصعب تأريخُ تاريخِ البدايةِ بدقّة، لأنها مختلفةٌ من بلد إلى آخر. مع هذا تُعرض عدةُ فرضيات في الأوساط الأكاديمية وزميلاتِها الصحافية بشأن البدايات. يتحدّث بعضهم عن موجات الهجرة أواسطَ العقد المنصرم. هناك من يحيلها إلى الرئيس الأميركي السابق ترامب وازدهار الشعبوية. ويتكلم آخرون عن بريطانيا بصفتها المتجرئةَ على الطلاق مع الاتحاد الأوروبي. يجري أيضا حديثٌ عن جائحة كورونا وعلوِّ صوت أصحاب نظرية المؤامرة. آراء تذهب إلى توسّع اليسار في توقعاته الحقوقية التي تدكّ صروحَ الثوابت البشرية المتوارثة، خصوصاً قضية تحوّل النوع الجنسي، ما استفزّ التجمّعاتِ والشرائحِ والطبقات المجتمعيةِ المحافظة. فرضيات قد تصحّ جميعاً عواملَ متضافرةً لتكوين البداية. ينطوي هذا الصعود على معركةٍ واسعة في الولايات المتحدة والقارّة العجوز لإعادة تشكيل المفاهيم وإنتاج تصوّرات جديدة.
بخلاف الأنماط التقليدية للثنائيات السياسية في البلدان الغربية، اللافت في معادلة يمين - يسار الحالية أنها لا تنبُع من خلافاتٍ اقتصادية حادّة. بطبيعة الحال، يقف المالُ والمصالح والشركات في خلفية الصراع، وسنجد أن الأزمات الاقتصادية حاسمةٌ في تراجع الشعبيات أو ارتفاعها. غير أن الواجهةَ والمضامينَ الرئيسة تميل إلى نزاعاتٍ ذات مفاهيم سياسية وثقافية ومجتمعية. توجد مساع لإيجاد أسس أيديولوجية.
يشير الواقع إلى وجود انقسام خفي بين اليمين التقليدي واليمينيين الجدد
وسط هذا، يقصد صقورُ المحافظين البريطانيين تقديمَ أنفسهم في جبهة المعركة اليمينية وفي لبّ إعادة الصياغات بحثا عن بلورةٍ أيديولوجيةٍ في مواجهة اليسار. توجهت في الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) وزيرة الداخلية البريطانية سويلا بريفمان إلى الولايات المتحدة، وفي جعبتها مقترحات بشأن قوانين الهجرة العالمية. أخرجت ما في جعبتها في كلمة أمام المعهد الأميركي لأبحاث السياسة العامة (AEI). ولاختيارها المكانَ دلالة. المعهد مرتبط وثيقاً بتيارِ المحافظين الجدد وما يحملونه من تصوّرات بشأن اليسار والقضايا المالية والديمقراطية والهوية الأميركية والعلاقات الدولية والمناخية والبيئية. إنها ذهبت إليهم لتُطرب آذان جمهورٍ متعطّش لسماع نشيدٍ عن بعث اليمين الجديد.
ركّزت الوزيرة البريطانية حديثَها على الدعوة إلى تغيير اتفاقية جنيف الخاصة باللاجئين لعام 1951، باعتبارها قديمةً وغيرَ صالحة حاضراً. ربما اعتقدت أنها تؤسّس فكرياً لمرحلة سياسية دولية بشأن حقوق الإنسان، لكن لا يبدو الأمر كذلك فعلاً. أثارتْ كلمتُها غضبَ المعارضين واستياءَ بعض المحافظين. مِن أهم نقاطها مسألةُ التعدّديةِ الثقافية في القارّة. إنها استدلّت على ما يجري في بعض المدن الأوروبية، ملمحةً إلى أحداث فرنسا أخيرا، أنه يكشف فشلَ التعدّديةَ الثقافية الناجمة عن الهجرة. بالطبع، سرعان ما ذكّرها آخرون بأنها، المتحدرةَ من جذور غير بريطانية، وزيرةٌ للداخلية بفضل التعدّدية الثقافية. حتى رئيسُ الوزراء ريشي سوناك، نائياً بنفسه، قال إن وجودَه رئيساً للوزراء نتاجُ نجاحِ التعدّدية الثقافية. شخصياتٌ أخرى، في مقدّمتها وزيرُ الخزانة جيرمي هانت، عزلوا أنفسَهم عما قالته. يشير الواقع إلى وجود انقسام خفي بين اليمين التقليدي واليمينيين الجدد.
ليس في المستطاع إطلاقُ مفهوم "يمين جديد"، إذ لا تعريف شاملاً له
ليس في المستطاع إطلاقُ مفهوم "يمين جديد"، إذ لا تعريف شاملاً له. اختلافُ الأسباب والدوافع والمضامين والأهداف، بل تفاوتُ مضامين يمين شرق أوروبا عنه في غربها، يحول دون بلورة مفهومٍ مكتمل الأركان. ومجموع اليمينيين الجدد لا يشكّل قوّةً سياسية قادرة على الحكم وحدها، لكنهم يسعون إلى أن يصيغوا أنفسَهم تياراً عابراً الحدود غربياً، حتى لو أدّى الأمر إلى التماهي أيديولوجياً مع اليمين العدو بقيادة الرئيس الروسي بوتين. هذا ما يبدو أن بريفمان تستهدفه. فمن جهة تسعى، ومن خلفها متطرّفون يدفعون بها، إلى مزيدٍ مِن السلطة واستعراضِ نفسِها، تحديداً في مؤتمر المحافظين المنعقد في مانشستر، بديلاً محتملاً عن سوناك حال فشلِه. من جهة أخرى، تعمل على عرْضِ برنامجٍ عابرٍ الحدود يمسّ القواعد الحقوقية الدولية. لن تنجح في هذا بتاتاً، لا تمتلك الكاريزما، ولا حتى التعاطفَ الدولي بما في ذلك داخل الأوساط المشابهة لها. لذلك، ولأنها تنتمي إلى مرحلة فشلٍ حكومي صريح، ستكون خارجَ المعادلة على المدى المتوسط، مهما بدت حاليا داخلها. يؤجّج الموقف ضدها أن خطابها نفسه اتهم بـ"رهاب المثلية" عندما تحدّثت أن المثليين ليسوا مهدّدينَ في بلدان أخرى. هذا وحده كاف لإسقاط مسؤول في بلد مثل بريطانيا. لكن ما تقوله أو ما تعبّر عنه لن يزول بسهولة، لأن وجوده ليس مرتبطاً بها، إنما بوضعٍ ومخاوفَ وتطوراتٍ قائمةٍ.
مسألةُ التعددية الثقافية هي بالفعل أحدُ العناصرِ المؤثرة. ليس ما قالته الوزيرةُ البريطانية بالكامل خاطئاً. الخطأ في الدوافع وفي طريقة استخدامها لتحقيق المكاسب. التعدّديةً الثقافية، مع نجاحاتها على مستوياتٍ معيّنة، تحوّلت في مستويات أخرى إلى صراعٍ ثقافي. أسبابه عديدة. بعضُها تتحمّل مسؤوليتَه حكوماتٌ لا تمتلك مشروعاً جلياً لإنجاح التعدّديةِ داخلَ الهوية الوطنية. ثم، مشكلةَ اليمين التقليدي بصورة عامة أنه يميل، منذ الليبرالية الجديدة زمن ريغان وتاتشر، إلى التخلي عن كثيرٍ مما بيد الدولة لصالح القطاع الخاص. الدولة قويّةٌ بوصفها مشرفةً على تطبيق القانون، وهي ضعيفةٌ من حيث ضعفِ قدرتِها على التحكّم بالعناصر الثقافية والاقتصادية. إنها قويةٌ أمنياً وسياسياً، لكنها محكومةٌ بشروط القطاعِ الخاص وعمومِ العناصرِ غير الحكومية ثقافياً ومالياً. على المستوى الاقتصادي تحديداً، نشرت جامعة كامبريدج دراسةً مفصّلة عن ضعف الدولة وقوتها في ظل الاقتصادات الرأسمالية المتقدّمةِ للباحثين مايكل أتكِنسون ووليَم كولمان عام 2009 كتبَا فيها تفصيلاً عن أن قوّة الدولة رهنٌ لما سمّاه المقال نشوءَ "شبكات السياسات" المختلفةِ لدعم الأساليب البديلة، وعن كيف يمكن للانفصال بين هذه الشبكات أن يؤدي إلى فشل السياسات.
بخلاف الأنماط التقليدية للثنائيات السياسية في البلدان الغربية، اللافت في معادلة يمين - يسار الحالية أنها لا تنبُع من خلافاتٍ اقتصادية حادّة
هذا بالتحديد نقطةٌ حاسمة في طبيعة علاقة دول أوروبية عديدة، وفي مقدّمتها بريطانيا، مع الاقتصاد فضلا عن الثقافة. هي في النهاية دولٌ رأسمالية، دورُ الدولة فيها تنظيمي وليس تحكميا تفصيليا. فكيف يمكن أن تنجح التعدّديةُ الثقافية من دون وجود خطة دولة لذلك. بريفمان وأمثالها يفكّرون بعقلية الحكومات الشرقية داخل بلدان لا يمكن أن تتقبل التحكم السلطوي الكامل بالهوية الثقافية. ربما لأنها، مثلي (أنا كاتب المقال) ومثلَ غيري المتحدرين من أصول غير غربية، تعاني فعلاً من قصورٍ في ملامسة كُنهِ الرأسمالية الغربية وقيمِها. لهذا نتجرّأ، هي وأنا وأمثالُنا، على قولِ كلامٍ كالذي قالته بدون فهمِ أن الفشل هو نتاجُ عدم مساعدة "شبكة السياسات" المتعددة الأطياف على البحث في خلق نجاحات حقيقية وبالتالي في مساعدةِ الدولة. علاوة على هذا، لا تتحمّل الأنظمة السياسية وشبكةُ السياسات الفشلَ وحدها. تلعب الطبقيةُ الاجتماعية والاقتصادية المتجذرةُ دورَها. ليس سهلاً على رجل أو امرأة جاؤوا إلى الدول الغربية بعمر العشرينيات أن يكونوا مِثل من وُلد هنا. كما ليس يسيراً لطفلٍ ولِد لعائلة لم تستطع أن تندمج اقتصادياً وثقافياً في المجتمع أن يندمج كما غيره. أضف إلى ذلك، هناك عقائدُ عدائية قائمة على فكرة أن المجتمع الغربي مجتمع "كافر"، هي لوحدها مشكلةٌ عميقة لا تُعالج عبر إشاعة الغضب والكراهية.
تُحاول فرنسا توجيه القوانين والسياسات ضد ملابس النساء المسلمات، استنادا إلى سياسات عدوانيةٍ لمحاربة عقائد عدوانية. بمعنى أن سياسة باريس تؤجّج معركةً بدلا من صناعة حلّ. تنمو العقائدُ العدوانية في ظروف عدوانية أسرع من ظروف أخرى. ومواجهةُ مشكلةٍ واحدة على نحو مجزَأ يسمح للمشكلاتِ الأخرى ذات الصلة بأداء وظيفتها السلبية. بعكس فرنسا، لا تتدخّل بريطانيا عادةً في الخطاب الديني، حتى لو كان حاملاً عقائدَ كراهيةٍ تجاه أبناء البلد الآخرين. هذا، رغم أنه يريح الهوياتِ العصيّةَ على التعايش مع الآخرين ويريح الدولةَ من "وجع الدماغ" بمعالجة التفصيلات، يجسِّد أيضا عُقدةَ أن تلك الهويات تنمو وتتوسّع عمودياً وأفقياً إلى أن تصبح ورطة تجعل مسؤولين، مثل بريفمان، يستخدمونها لأغراضِهم السياسيةِ. وبالطبع، لا تقدّم، وأمثالُها، حلولاً، بل مجرّدَ خطابٍ وبعضِ المتغيرات وتأجيجِ الغضب والكراهية في أوساطٍ متناشزة، ما يؤدّي إلى وضع البلاد أمام مواجهة محتملة. هو وضعٌ لا يبدو أن لليسار كذلك رؤيةً واسعة بشأنه. هو الآخر يعاني من تناقضاتٍ مفاهيمية يمكن تناولُها في سياق آخر.