غزّة مسألة أخرى في تناشز لندن السياسي
"يجب ألا نسمح للمتطرفين إطلاقاً بترهيبنا لتغيير طريقة عمل البرلمان". هكذا جاء تعليق رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، على رواية رئيس مجلس العموم، ليندسي هويل، أنه اطّلع على أدلّة "مخيفة جداً" تفيد بأن نوّاباً تعرضوا لتهديدات بسبب مواقفهم من الوضع في الشرق الأوسط. ساق هويل الكلام لتفسير قرار أجّج الاضطرابَ والفوضى في مناقشة مجلس العموم وقفَ إطلاق النار في غزّة لاتخاذ قرار بشأنه. منبع الجدل أن رئيس المجلس سمح لحزب العمّال بطرح تعديله الخاص على مقترح الحزب الوطني الإسكتلندي (SNP) في هذا الصدد. ذكرت صحيفة بوليتيكو الأميركية أن هذا الحزب ونواباً محافظين لم يصدقوا هذا التفسير. على أي حال، رواية كهذه تبتّ بها الدوائر الأمنية ذات الصلة. في الحصيلة، قرّرت الحكومة تخصيص 31 مليون باوند لحماية النواب من مخاطر أمنية. وسواء وقعت تهديداتٌ جادّة أم لم تقع، المؤكّد أن مشهداً برلمانياً متوتراً تسبّب بانقسامات سياسية جديدة. كما أنه فسح المجال أمام مزيد من التساؤلات عن التفسير الأخلاقي للانشغال في شكلياتٍ سياسية، بينما هناك حرب مدمّرة تستدعي موقفاً صارماً. ربما يكون أبلغَ أو أقسى وصف للوضع عنوانُ مقالِ الكاتب البريطاني إيان دونت في صحيفة ذي آي البريطانية "بينما يمارس نوابنا الصغار ألعاباً سياسية تحترق غزّة".
قد يحلو لبعض الأوساط الناطقة العربية ربط الأمر بأنه محاولةُ إرضاء إسرائيل. إنها رواية متوقعٌ أن تُسرد. بالفعل، هناك من سرَدها، انطلاقاً من التفسير العتيق أن أياديَ خفية تحيك الخيوط بدقّة لنسج مشهد سوريالي مؤامراتي. ما لم يتوفر دليل، ستبقى مرسلةً بلا أساس سوى التأويل. الأدلةُ المتوافرة والمطروحة تأخذُنا إلى أن منبعَ الحادثة خصوماتٌ داخلية معقدة وشرسة سياسياً. مهم بدءاً فهْمُ ما وقَع في جلسة التصويت على الدعوة لوقف إطلاق النار المنعقدةِ في 21 الشهر الماضي (فبراير/ شباط). قبيل الانعقاد، مقترحان كانا على جدول الأعمال. الأول قدّمته الحكومة، وهو يماثل موقفها الرسمي المعلن. الثاني أعدّه الحزب الوطني الإسكتلندي، وتضمّن دعوةً إلى هدنة إنسانية وإطلاقِ سراح الرهائن الإسرائيليين، تمهيداً لوقف إطلاق النار. احتوى أيضا تشديداً على إقامة الدولتين. لم يُشر إلى ما جرى في 7 أكتوبر، ما أثار أسئلة. رئيسُ كتلة الحزب في مجلس العموم، ستيفن فلين، علّق بأن المقترح يركز على الأهداف الحالية متمثلة بإطلاق سراح الرهائن ووقف فوري للحرب، مضيفاً أن الموقف من الهجوم أعلن على نحو ثابت بأنه كان عملاً إرهابياً. هنا، بينما انتظر الجميع أن يُعرض المقترحانِ للتصويت، ألقى رئيس مجلس العموم كلمةً قصيرة سريعة وحاسمة قال فيها إنه يتيح مقترحاً ثالثاً هو تعديل حزب العمال المعارض على المشروع الإسكتلندي. هنا انفجر الجميع، وغادر كثيرون، وصوّت الباقون لتمرير ما أرادته المعارضة. رغم أنه غير ملزم، لأنه صادر عن معارضة لا تمتلك الأغلبية، ولم يحظ بدعم من الحزب الحاكم، أنقذ التصويتُ العمال من فخ كاد أن يؤديَ إلى تمرد داخلي.
المحافظون يلعبون آخر أوراقهم في مواجهة يظهر أنهم خاسرون فيها
سبقت الأمر انقساماتٌ حادّة عاصفة. من جهة، هناك الموقف الرسمي الذي يمثله زعيمه، كير ستارمر، ومن جهة أخرى، مواقف أعضاء ومراكز تأثير أكثر تعاطفاً مع الغزيين، من بينها منظمة مومنتوم اليسارية التي اتهمت قيادة الحزب بأنها توفر غطاء "للحرب الوحشية". نحو مئة نائب عمالي هدّدوا ستارمر بأنهم سيصوتون على مقترح الوطني الإسكتلندي في حال لم يقدم مقترحا ذا صياغة معدلة تلامس جزءاً من مطالبهم. لذا لو لم تجرِ المسارات كما وجّهها رئيس مجلس العموم، لتعرّض الحزب المعارض إلى نكسةٍ تهدّد تقدّمه اللافت والمطرد في استطلاعات الرأي. هنا، أعدّ مقترحاً خاصاً. تضمّن مواد متشابهة لبقية المقترحات، لكنه ركز على نقطتين مختلفتين قليلاً. من جانب، توفير ضمانات عملية وواضحة وبعيدة الأمد للسلام في الشرق الأوسط، تتكلل بحلّ الدولتين وعدمِ تكرار الهجمات ومبدأ إسرائيل آمنة. من جانب آخر، نصّ المقترح أنه "لا يمكن التوقع من إسرائيل وقف القتال إذا استمرت حماس في العنف".
إثر ذلك، أبدى عشرات النواب عدم ثقتهم برئيسهم، مقدّمين طلبا بعزله. هو بدوره اعتذر مرّتين، ووعد بتجديد التصويت. لم يدع بناء على طلب جديد لـ"الوطني الإسكتلندي". هذا، كما نقلت "الغارديان"، قد يصبح انتهاكات آخر للبروتوكول البرلماني. مشهد مثل هذا، مليء بالسجالات والتناشز، هو صورة مصغرّة عن الانقسامات الحزبية وداخل الأحزاب نفسها. ليندسي هويل مستقل الآن، ما سمح له برئاسة المجلس، إلا أن خلفيّتَه عُمالية. هذا طَرح إشكالية عن احتمال أنه رامَ الحيلولةَ دون تعرّض حزبه السابق إلى نزاع داخلي صعب. بعض المحافظين اتهموا زعيمَ المعارضة، كير ستارمر، بالضغط على هويل أو تهديده. وربما كان رئيس البرلمان صادقاً، وأن التهديدات جادة بالفعل. هذه احتمالات لكل منها مؤشراته التي تنتهي جميعاً إلى التناشز وحالة الصراع الشرسة سياسياً.
المعركة بين يمين الوسط ممَثلاً بالمحافظين واليمين عموما، من جهة، ويسار الوسط وأغلب اليسار من جهة أخرى، هي عنوانٌ تدخل تحته أزمةُ البرلمان بشأن غزّة. ما حصل، إن نظرنا حصرياً إلى الموضوع المختلف عليه، لم يكن سوى تماحك على شكليات. أما بالنظر إلى عموم المشهد، فهو شقاقٌ وراءَه دوافعُ وأهدافٌ ومخاوفُ لا علاقة مباشرة لها بغزّة وإسرائيل وحماس والشرق الأوسط. الجانبان، الحكومة والمعارضة، يستثمران كلَّ مناسبة ممكنة في التنافر بينهما. حتى مسائلُ مثل الموقف من الهجرة والعلاقة بالاتحاد الأوروبي والسياسات المالية والاقتصادية والقضايا الحقوقية كتحوّل النوع أو الجنس، هي، وإن كان بعضُها حقيقياً، وقودٌ لتأجيج الصراع. المحافظون يلعبون آخر أوراقهم في مواجهة يظهر أنهم خاسرون فيها. إنهم يقاتلون حتى الرمق الأخير لحماية ما تبقى لهم أو لتسجيل مواقف مفيدة لمستقبل أبعد. أما "العمّال" فيعملون على قلبِ كل شيء على الأغلبية الراهنة تمهيداً للإتيان بتصورات جديدة تساعدهم على البقاء لمستقبل أبعد.
في غضون أقلّ من سبعة أعوام توالى على الحكومة أربعة رؤساء من حزب واحد، وهو ما لم يحدُث منذ الحرب العالمية الثانية
ليس هذا كل شيء. الانقسامات داخل الحزب الواحد بيّنة. في يد، يعاني المحافظون مِن تدهور شعبيتهم باطراد. خسروا المقاعد في عمليات الانتخابات الجزئية باستثناء واحد. انسجامهم داخلياً هشٌ للغاية. الصراع يدور حتى على تعريف أيديولوجيا المحافظين أو هويتهم. مثلاً، رئيسة الوزراء السابقة، ليز تراس، في محفل لليمين في الولايات المتحدة، دعت إلى أن يكون لدى المحافظين في العالم مدفع "بازوكا" لمواجهة خصومهم الذين يهددون القيم الغربية. اليسار من بين الخصوم. مسألة الاتهامات بالإسلاموفوبيا تلقي بظلالها داخل الحزب، آخرها حادثة تعليق عضوية النائب لي أندرسون بسبب اتهامه عمدة لندن صادق خان بأنه تحت تأثير الإسلاميين. قبل ذلك، بسبب مقال لها في صحيفة التلغراف رأت فيه أن خطر الإسلاميين المتطرفين كبير على المملكة المتحدة، تواجه وزيرة الداخلية السابقة، سويلا بريفمان، مواجهة داخل حزبها (المحافظين). رئيس الوزراء الإسكتلندي حمزة يوسف، وهو محافظ ومسلم، عزز من حالة الريبة، عندما قال إن حزب المحافظين يعاني بالفعل من الإسلاموفوبيا. هذا كله في ظل إخفاق أمام التضخم والأزمات الاقتصادية.
في يد أخرى، حزب العمال أمام شجارٍ لا يكفُّ بين يسار الوسط واليسار الأبعد، يعود إلى مرحلةِ زعيمه السابق جيرمي كوربن ذي التوجّهات اليسارية القريبة من الماركسية، والمتهم بالسماح لنمو نزعةٍ معادية للسامية. وسط هذا، يسير قائدُه الحالي، ستارمر، في حقل ألغام، ساعياً إلى ضمان اجتثاث أيّ إشارة تكرس الاتهامات السابقة بمعاداة السامية داخل الحزب، وضمان البقاء في صدر المواجهة ضد الإسلاموفوبيا للحفاظ على قواعده الواسعة في الأوساط البريطانية المسلمة. إصراره على تقديم مشروع متوازن بريطانياً عن وقف إطلاق النار بغزة هو جزء من التوازن الصعب بين جانبين لكل منهما أهمية عالية براغماتياً وأيديولوجياً. لهذا عمل على تقديم مقترح لا يكون حاداً ضد إسرائيل، وفي الوقت نفسه يوفر للجماعات الأكثر يسارية والمكونات الإسلامية داخله جزءاً من مطالبها.
بالطبع، ليست الانقسامات حديثة على الأحزاب البريطانية. طالما ظلت لندن مسرحَ معاركَ سياسيةٍ. طبيعة النظام البرلماني تحفّز تعقيدات المسرح. المثير هو حالة عدم الاستقرار الحزبي. في غضون أقلّ من سبعة أعوام توالى على الحكومة أربعة رؤساء من حزب واحد، وهو ما لم يحدُث منذ الحرب العالمية الثانية. اليسار يصعد في البلاد في حين أن أوروبا باتت على محكّ صعود اليمين. أسئلة ملحّة تدور في الأجواء السياسية والإعلامية والشعبية عن قرارات سابقة مثل بريكست. هناك خشية من استقواء نزعات انفصالية، في إستكلندا مثلاً. كما أن الهوية الحزبية نفسها محاصرةٌ بعلامات استفهام تدور حول ما إذا كان كبيرا اليمين واليسار، المحافظون والعمال، يمتلكان الكاريزما السياسية والخدمية الكافية لقيادة تحدّيات صعبة في دولة عظمى.