العراق... السيادة والوقاحة
ما إن شرعت القوات الأميركية بضرباتها على أهداف مليشيات داخل العراق، حتى انبرت حكومةُ البلاد منددة بانتهاك واشنطن السيادة. الأخيرة تقول إنها أبلغت بغداد بالهجمات. في المحصلة، لم يقرر البيت الأبيض هذه الخطوة إلا بعد تعرّضِ قواتِ بلاده لهجمات مستمرّة من إيران ومليشياتها داخل البلاد وخارجها. جديدها أخيراً تعرض قاعدة البرج 22 شمال شرقي الأردن، حيث قوات أميركية، لهجمة بطائرة مسيّرة، ما أدى إلى مقتل ثلاثة جنود من تلك القوات. الهجوم غير مسبوق، نفذته جماعاتٌ مسلحةٌ مرتبطةٌ بالحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني. ليس متيَقناً بعد أيُّها. المعطيات تؤشر نحو كتائب حزب الله.
مرجّحٌ أن يكون استنكار السلطات العراقية شكلياً، إسقاطاً لواجب التنديد بفعل اعتداء خارجي. لهذا لا يؤخذ كثيراً على محمل الجدّ، بل يُفهم على أساس أن الحكومةَ ممثلةً برئيسها محمّد شياع السوداني محرَجةٌ. لكن، أظن أن تنديدَها، شكلياً كان أم حقيقياً، وقاحةٌ. نعم هو كذلك، حتى لو جاء مَن يقول إن الوقاحة هي الغارات، وإن للسلطة العراقية حق الاعتراض. القول الافتراضي هذا مبنيٌّ على مفهوم مجرّد، أن أي بلد عضو في الأمم المتحدة سيدٌ على نفسه وتمثل سيادتَه الدولةُ الحاكمة. الكلام نظري، له شروطه وأسسه المفقودة في الحالة العراقية. مليشيات، سواء أكانت مرتبطة بطهران أم بحزب الله أم لم تكن، ارتبطت بالشياطين أم بالأولياء أم عملت مستقلة، هي التي تنتهك سيادة العراق وبلدان أخرى. وأخيرا قامت بانتهاك صريح في الأردن، بصرف النظر عن أسباب وجود قوات أميركية هناك وشرعيةِ ذلك، وبمعزل عن المزايدات الروتنية مِن دول عربية فيها قوات أميركية، سرّاً أو علناً، على العراق، بأنه محتلٌ وفيه قوات أميركية والإمعانِ في الترويح لما كان يسمى بمقاومة الاحتلال.
حق الحكومة في الغضب يكون حقاً حين تصون نفسَها وسموّها، أو بتعبير أدق سيادةَ القانون الداخلي والدولي
هذا العبث والاستهتار الذي تمارسه المليشيات العراقية داخلَ بلادها وفي بلدان أخرى مجاورة مثال غير ملتبس على انتهاك السيادة. هو اعتداءٌ على سموِّ أي بلد، أن تقوم مليشيا بهجمات على بعثات دبلوماسية أو قواتٍ موجودة بموافقة الحكومة الممثِلة ذلك السموّ، سواء أجاءت بانتخابات حقيقية أم عرجاء أم بسلطة الأمر الواقع. هي الحكومة التي تتعامل معها الأمم المتحدة، وهي المسؤولة عن أي خلل، مِن خلال قنواتها المعنية، أمام الأسرة الدولية. لذا، وقاحةٌ أن تستنكر انتهاكَ واشنطن السيادة دون أن تقوم بما يلزم لوقْف العبث المليشياوي المتباين مع سيادتها. حق الحكومة في الغضب يكون حقاً حين تصون نفسَها وسموّها، أو بتعبير أدق سيادةَ القانون الداخلي والدولي، سواء بناءً على المبدأ الفلسفي القائم على سيادة الأمة أم المبدأ الكامن في سيادة الدولة أم على أي مبدأ فلسفي أو فكري سياسي آخر، حديث أو معاصر. مطلوب منها، قبل أن تتحدّث عن السيادة المنتهكة بفعل غارات خارجية، أن تفرض سيادة الدولة وسيادة الأمة. لا بد مِن سيادةٍ قبل الحديث عن انتهاكها.
بعد معاناة طويلة وبصعوبة بالغة، استعاد العراق سيادتَه وأُخرج من البند السابع الذي دخله بفعل حماقات الرئيس الأسبق صدام حسين واستهتاره. الخروج من هذا البند له استحقاق أساسي، هو أن تفي بغداد بواجباتها في التخلص من تركة الحماقات. نظرياً، فعلتْ ذلك، أما عملياً، فتصنع العكس. إذ، قانونياً، الحشدُ الشعبي (الكيان العسكري المليشياوي المشكَّل بعد احتلال داعش أجزاءً من البلاد) جزءٌ من الدولة ومموَّلٌ منها. هي مسؤولة عن أفعال فصائله بوصفها أفعالا للدولة. واقعياً، ليست كذلك. تصوْل مليشيات عراقية في الحرب الأهلية السورية وحربها بالوكالة، وتتحدث عن ضربات موجهة لإسرائيل، وضربت الأردن أخيراً، وتوجد شكوك أنها كانت وراء الهجوم على أرامكو السعودية في سبتمبر/ أيلول من عام 2019. هي تهدّد دولاً بالحرب، وتقوم باستهدافاتٍ عسكريةٍ مميتة أو خطرة في مناطق عراقية عديدة من دون عِلم القنوات الرسمية ذات الصلة. ألا يستدعي هذا أن تصبح السلطة التنفيذية المسؤولة عن تسيير إدارة الدولة بين خيارين. إما أن تصير بلا سيادة كونها معتدية لأن أطرافاً فيها تزاول ذلك، مثل كتائب حزب الله وحركة النجباء وعصائب أهل الحق ومنظمة بدر وغيرها. الخيار الثاني أن تُسلب الجماعاتِ المسلحةَ صفةَ الدولة والتمويل وبالتالي ملاحقة انتهاكاتها. الثاني بالطبع صعب، لأن بعض تلك الجماعات طرف أساسي في الحكومة وتأليفها.
التنديد بالقصف الأميركي لأنه اعتداء على السيادة حق للحكومة منقوص. المطلوب مبدئياً أن تباشر هي بفرض السيادة في مواجهة مليشيات
على هذا الأساس، التنديد بالقصف الأميركي لأنه اعتداء على السيادة حق للحكومة منقوص. المطلوب مبدئياً أن تباشر هي بفرض السيادة في مواجهة انخراط مليشيات تابعة لها في محور إقليمي تقودُه طهران. القناة الرسمية التي تحدد موقف بغداد من هذا المحور، وهي رئاسة الحكومة أو وزارة الخارجية، لم تبرْم أيَّ اتفاق مع العاصمة الإيرانية يجعل نظيرتها العراقية جزءاً من محورها. إذاً، ما دمنا نتحدث عن السيادة وهو مفهوم فلسفي/ قانوني، الانخراطُ العسكري والأمني لطرف رسمي (مليشيات في الحشد وأحزاب) في هذا المحور هو انتهاك للقانون المحلي والدولي، وبالتالي انتهاك للسيادة. من هنا تبدأ الحكاية.
الحكاية أن هناك مفهوماً بائساً جرى ترويجه قرناً يقول إن السيادةَ مجردُ حدود جغرافية، خطٍ أحمر أمام تجاوزِ دولة أخرى. لقد مُرّر هذا المفهوم في تربيتنا القومية أو الوطنية وإلى تصوراتِنا السياسية بوصفه المعنى الوحيد للمفردة. في حين أن كل جدليات الفلسفةِ والفلسفةِ السياسية وتعاليمِ القوانين الدولية الراهنة تنظر إلى هذا المعنى بوصفه جزءاً من معنى أوسع. مفردة السيادة بدأت في إطار سجال فلسفي بين توماس هوبز، المؤمن بسلطة الدولة المخوَّلة بفعل تعاقد أشخاص، وجون لوك المؤسس لفكرة سيادة الأمة. ومن هذه السجالات، نبعت جدلياتٌ وسردياتٌ متتالية عن سيادة القانون لغاية تبلور مفهوم الدولة الحديث. المفردة تستغل تعسّفاً من جانب السلطات الديكتاتورية أو الفاشلة أو الفاسدة لتقتصر على تلك الحدود الجغرافية التي يحقّ لأي حاكم أن يفعل فيها ما يريد من دون رادع.
القصف الأميركي على العراق هذه المرّة مستدام حتى تتوقّف استهدافات مصالحها
من هنا، إن بلداً، تخشى المؤسسات الرسمية المدنية والعسكرية والأمنية فيه من سلطة موازية، منقوص السيادة أو فاقدها. وإذا أراد الحصول على استحقاق هذه المفردة، لا فرصة لديه إلا أن يبدأ بالتخلص من هذه السلطة الموازية. إن لم يحصل ذلك فلن يكون العراق قادراً على استعادة ما فقده منذ غزو الكويت عام 1990. خصوصاً أن اللعب ضد واشنطن لن يؤدّي سوى إلى مزيد من الخسائر ودوام الفشل. الولايات المتحدة، منذ انتهاء الحرب الباردة، لم تقصف بلداً من دون أن يفتك هو بسيادته أو يعتدي على دولةٍ أخرى. هي تستثمر هذا المدخل لكي توسع نفوذها. عراق صدام وليبيا القذافي وأفغانستان طالبان (الحكومة الأولى) وسورية الأسد أمثلة على هذا. وقد اختار العراق خلال عشرين عاما مضت أن يواصل قدرَ نظامه السابق، رغم أن جلّ النظام الحالي معاد لذلك السلف. هذا أحد عوامل استمرار الحرب فيه. لن تتوقف إطلاقا ما دامت بغداد لا تحترم سيادتها على نفسها، سيادة الدولة والأمة، والدول الأخرى.
القصف الأميركي على العراق هذه المرّة مستدام حتى تتوقّف استهدافات مصالحها. هي معركة بين عصابات مرتبطة بطهران داخل بلد يريد أكثر شعبه الاستقرار، ودولة عظمى خصومها في الشرق الأوسط على مدى 70 سنة أنظمةٌ وجماعاتٌ استشرى فيها الفشل أو القمع أو البؤس، بدءاً بقاهرة جمال عبد الناصر وانتهاء بطهران خامنئي. ربما سيأتي يوم يظهر فيه من يوقف واشنطن وتحكمَها الفائض، ويقدّم نموذجاً أفضل، لكنه بالتأكيد ليس المليشياتِ العراقيةَ ومحورَها الإيراني. الـ"ربما" هذه غير مرجّحة في المدى المنظور، لكنها نظرياً ممكنة.