حقيقتي المُضنية

08 يوليو 2024

(أنس البريحي)

+ الخط -

لم أضطرّ يوماً للاستعانة بمنّبه أستيقظ، لسبب بسيط جدّاً، فأنا لا أنام إلّا قليلاً، لأنّني من ذلك النوع عاثر الحظ المنكوب باليقظة، الذي لا يستغرق في النوم عميقاً مهما بلغت درجة إرهاقه، وإن كنت أتمنّى دوماً أن أعتذر ولو مرّة عن تأخّري عن موعد لأنّه "راحت علي نومة". أغبط الذين ينعمون بنوم هادئ مريح عميق، يصل بهم إلى مرحلة تشبه الإغماء اللطيف، الذي يفصلهم عن الحياة ومتاعبها، ويبيح لهم الراحة حتّى أقصاها.
إذا تحرّينا الدقّة والأمانة، أحسدهم من كلّ قلبي. لم يحدُث ذلك لي طوال حياتي، حتّى لو خَضَعْتُ لعملية جراحيّة تستدعي تخديراً كاملاً، فإنّني سرعان ما أصحو بكامل الانتباه، لأسال من هم حولي إذا كنت "خبّصت في الكلام". حدث مرّة أن استيقظت من عملية جراحية وأنا أردّد قصيدة أحمد شوقي "سَلامٌ مِنْ صَبا بَرَدى أَرَقُّ/ وَدَمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دمشقُ"، إلى أن وصلت إلى الشطر "وللحُرّيَّة الحَمراءِ بابٌ". اكتمل صحوي، وكان فريق الأطبّاء يُصفّق مبهوراً بمقدرتي على الحفظ، في العادة، أظلّ أتقلّب في الفراش، ليس على جمر النار، بل هكذا، مجّاناً. يستمرّ الأمر ساعاتٍ طويلةً قبل أن أنال بعد عناء نزراً يسيراً من النوم المُتقطّع المُكتظّ بالكوابيس.
نعم، أنا كائن غريب التركيب، لا أنام بسهولة. لا أقصد ذلك على طريقة إحسان عبد القدوس، ولا على طريقة نجاة الصغيرة في رائعتها "عيون القلب"، حين تُحمّل الحبيب "ألف جميلة"، حتّى إنّها تُعيّره قائلة "يا للى مبتسهرشِ ليلة يا حبيبي"، لأنّه ينام ملء جفنيه في حين أنّ رمشها "ما داق النوم"، من فرط العشق. لهذا، لا أحتاج ساعةً مُنبّهة. أصلاً أكره الساعات، ولا أطيق تكتكاتها المُلحّة فوق رأسي، لا أذكر على وجه التحديد متى بدأَتْ ساعات نومي في الانكماش إلى الحدّ الأدنى الكفيل بتدمير جملتي العصبيه برمّتها، ويحوّلني خلال ساعات النهار الأولى شخصيةً نكدة، متكدّرة المزاج، لا يُنصَح بالاقتراب منها إلّا لحالات الضرورة القصوى، تحت طائلة التعرّض للتقريع من دون أيّ سبب واضح.
وقبل أن يُقدّم لي أيٌّ منكم نصائحه الثمينة في كيفية التخلّص من هذا الأرق المُزمن، أقول لكم إنّني جرّبت كلّ شيء تقريباً، فتركت القهوة التي أحبُّ واستعملت الأعشاب المُهدّئة مثل البابونج واليانسون، وكذلك الأدوية التي تحتوي هرمون النوم. وجرّبت القراءة والاستماع إلى الموسيقى الهادئة وتمارين التنفّس العميق، وخضعت لجلسات البرمجة اللغوية العصبية، التي يزعم خبراؤها أنّها تمكّنكَ من تغيير طريقة تفكيرك، وتجعلكَ قادراً على السيطرة على عقلك. وبالتالي، على حياتك، وتخلّصكَ من عاداتك السيئة، وتجعل منك إنساناً ناجحاً مُبدِعَاً مُتوازناً. لكن ذلك كلّه كان بلا فائدة، كلّفني فقط مبالغ طائلة، بل أدّى إلى نتيجة عكسية تماماً.
قال لي خبير نفسي مُتفلسِف بعض الشيء، "إنّك تحبّين الحياة إلى درجة أنّك لا ترغبين بأن يفوتك أيّ تفصيل. لذلك، يستعصي النوم على أمثالك". وقال آخر: "إنّك تعانين من فرط النشاط الذهني الذي يجعل دماغك مُتيقّظاً أطول فترة ممكنة، ويحرمك من ساعات النوم الطبيعية اللازمة لجسم الإنسان". لذلك، قرّرتُ، بعد طول عناد ومكابرة، ومن دون أدنى فخر، أن أستسلم طواعية لشرط الواقع شديد المرارة، وأن أتصالح مع حقيقتي المُضنية امرأة متوثّبة بصفة دائمة، مبتلاة باليقظة الملعونة، وبفرط الانتباه، وقد جافاها مرقدها إلى الأبد، فيما يبدو.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.