حشيش الحكومة
يوشك الحشيش أن يكون من ثوابت حياة المصريين اليومية، مثل الفول والطعمية، والكشري، والشاي أبو نعناع، ومعسّل القص والسلوم، جزء من حكايات الناس العادية، كما أنه جزءٌ من حكايات النخب، ذكرياتهم، كتاباتهم، أشعارهم، نكاتهم، نوادرهم. لا استثناء هنا، الحشيش للجميع، رئيس الدولة (أنور السادات نموذجاً)، الوزراء، المسؤولون، المشايخ، الكتّاب، الشعراء، الصحفيون، الفنانون، الجميع يشرب، اعترف واحتفى أم "استعبط" وأنكر. يدخل الحشيش إلى مصر بكمياتٍ لا تسمح بأن يكون التهريب سبيله الوحيد، وإلا فالشرطة المصرية وحرس الحدود أقلّ كفاءة من أمن "القناطر الخيرية". وكما تسمح الدولة، بشكل محسوبٍ طبعاً، بدخوله، تسمح بتداوله، علناً، تحت سمعها وبصرها، وأحياناً وصايتها. ولا يخلو فرح شعبي في حارة أو شارع أو ميدان من "واجب" حشيش، وغيره من "كيوف الغلابة"، يشرب العريس (وأحياناً العروسة)، ويشرب الأقارب والمدعوون، والمطرب وفرقته والراقصة (إن وُجدت)، وإذا جاءت الشرطة أخذوا واجبهم ومشوا.
لا يحتاج إثبات ما سبق إلى أدلة أو أحراز أو جرائد صفراء أو إعلام "تريندات"، يحتاج فقط أن تكون مواطناً مصرياً، عشت و"شفت"، أما إن كنت عضواً منتسباً، أو مواطناً "شريفاً" تشاهد مصر في التلفزيون، وتتعرّف عليها من خلال الأفلام والمسلسلات وبرامج لميس الحديدي وعمرو أديب، فليس عليك إلا أن تشاهد، على سبيل المثال، فيلم "دم الغزال"، وترى ضابط الشرطة (عمرو عبد الجليل) الذي لا يتعاطف مع "الفرح"، على غير العادة و"الأصول" ويقبض على العريس (محمد شرف)، ليلة دخلته، لحيازته حشيشاً. وترى كيف يصوّره عم وحيد حامد، الحرّيف، بأنه ضابط "مفتري" و"غِتت" في نظر "الناس الطيّبين"، (صلاح عبد الله ونور الشريف وفتحية طنطاوي) ليمرّر من خلاله "طناً" من الدلالات الاجتماعية والسياسية والثقافية..
إذا سألتَ حشّاشاً مصرياً "مخضرماً" عن أفضل أنواع الحشيش، فالإجابة، كما سمعتها من أربابها، هي "حشيش الحكومة"، "براند"، علامة مميّزة، بضاعة مضمونة، نصيب الحشاشين المحظوظين وأولاد الناس. يقبض السادة الضباط "اليقظون" على الحشّاشين "المغفلين" ويصادرون الحشيش ويفرزونه ويصنفونه، ويفصلون الغثّ عن السمين، والمضروب عن الأصلي. ويذهب المتهم إلى القاضي ثم إلى السجن، (بالقانون)، ويذهب الحشيش إلى أصحاب نصيبه، من أصدقاء الضباط، الذين لن يُقبض عليهم وبحوزتهم حشيش، لأنهم ببساطة يشربون مع الحكومة (بالحب).
انتشر الأسبوع الماضي خبر ضبط الفنانة منّة شلبي في مطار القاهرة وفي حوزتها "مخدّرات". هكذا كتبت مواقع مصرية، من المفترض أنها "صحفية"، مخدّرات، ولا شيء آخر، كأنها ممسوكة بـ "هيروين"، وانتشرت صور "المضبوطات"، أو "الأحراز"، وهي منتجاتٌ يدخل في تصنيعها حشيش القنّب بنسبة لا تتجاوز جزءاً من الغرام، ومسموح بها في بلاد أخرى، ولكن ليس في مصر طبعاً، بحكم الدين والأخلاق و"سلطة القانون". كما انتشرت صور جواز سفر منّة شلبي ومعلوماتها الشخصية، في انتهاكٍ يحمل حسّاً انتقامياً، (جريمة لن يُعاقب القانون المصري فاعلها). وجاءت أغلب التعليقات على الخبر تتساءل: "زعّلتي مين يا منّة"؟، وتفترض ترتيباً أمنياً، ودسيسة، ومؤامرة، رغم أن تعاطي الحشيش، خصوصاً بهذه الكميات البسيطة، ليس بعيداً عن أغلب المصريين، كما أنه ليس عيباً، وليس عاراً، ويحدُث يومياً، وكان من الممكن أن يمرّ الخبر، من دون تشكيك، أو يجد من يطالب بالحساب والعقاب، من دون "محسوبية"، إلا أن "مشهد" التعاطف مع منّة، والإدانة السريعة للسلطة يطرحان طنّاً من الدلالات السياسية عن نظرة أغلب المصريين إلى الدولة المصرية، الآن، بوصفها مروّجة الأكاذيب والتريندات الرخيصة لإلهاء المصريين عن أحوالهم الاقتصادية البائسة، وعن سلطة القانون "الانتقائية" التي تدين وتبرّئ، وفق موقع المواطن من الطبقة الحاكمة، والتي سمحت، أيضاً، لممثلة مشهورة أن تخرج بكفالة خمسين ألف جنيه، رغم إدانتها، فيما لم تسمح لآخرين بالشيء نفسه، في وقائع مماثلة، وأحياناً أخفّ وطأة، تعرّض فيها مصريون عاديون إلى الحبس والتجديد، و"البهدلة"، قبل أن تثبُت براءتهم. استفتاء شعبي لا يقبل التزوير.. أيهما أخطر: حشيش منّة أم "حشيش الحكومة"؟ الإجابة واضحة.