تلك اللحظة الكاشفة

09 مايو 2022

(هلن الخال)

+ الخط -

يعرّف علم النفس عقدة الدونية بأنها "شعور الإنسان بالنقص أو العجز العضوي أو النفسي أو الاجتماعي، بطريقة تؤثر على سلوكه، ما يدفع بعض الحالات إلى التجاوز التعويضي بالنبوغ وتحقيق الذات والكينونة، أو إلى التعصب والانكفاء والضعة والجريمة في حالات أخرى". ويقول الطبيب النمساوي ألفرد إدلر إن "كل إنسان يولد وعنده درجة ما من الشعور بالنقص، والتي تبدأ حالما يبدأ الطفل إدراك وجود الأفراد الآخرين ممن يظن أن لديهم قدرة أفضل منه للعناية بأنفسهم، والتكيف مع بيئتهم، ما قد يشكّل حافزا لديه لتطوير قدراته". وهذا ما يؤكد أن الإنسان كائن تنافسي بالفطرة، يحرّكه ذلك الإحساس الكامن بالنقص، كما ذهب إدلر، فيسعى إلى التفوق وإثبات الذات في مرحلة مبكرة جدا من طفولته، وكأن الحياة حرب خفية، يخوضها على مدى العمر، إلى أن يحقق الأهداف التي وضعها لنفسه، فينال إقرار المجموع، ويصل إلى مرحلة الرضا عن الذات والثقة العالية بالنفس، ما يحقق له التوازن المنشود الذي ينعكس إيجابا على سلوكه وعلاقاته الاجتماعية. 
إلى هنا، يكون الاحساس بالنقص دافعا ضروريا وصحيا وسببا أساسيا لنيل النجاح، غير أن الإحساس بالدونية والشعور بالنقص قد يتخذ شكلا أكثر خطورة، حين يتحوّل إلى عقدة مرضية طاغية. وهي، بهذا المعنى، حالة مرضية، سوف تنغّص على المصاب عيشه، إذ يترتب عليها شعور الشخص بالفشل والتعاسة وبعدم التحقق في محيطه، فيفقد الثقة بنفسه المهزوزة أصلا، ما يؤثر سلبا على علاقاته الاجتماعية، ويغدو أكثر ميلا إلى العزلة، وتنتابه مشاعر الغيرة والحسد والكراهية للذات وللآخرين الذين لا يرى فيهم سوى منافسين، تمكّنوا من التفوق عليه. ويستقر لديه الشعور بأنه أدنى منزلة منهم، فيأكل الحقد قلبه، عند نجاح أحدهم، ويعتبر ذلك عدوانا شخصيا عليه. وقد يجنح إلى العنف والجريمة سلوكا تعويضيا. وهو، بهذا المعنى، شخصٌ غير اجتماعي، متشائم بطبعه، لأنه عاجز عن المحبّة والعطاء والتفاعل مع محيطه بشكل سوي، ما ينفر المجموع من حضوره الثقيل وطاقته السلبية، لفشله الذريع في تكوين علاقات الحب والصداقة والزمالة. ويظل ميالا إلى الشكوى والتذمر والتذرع بسوء الحظ، فيقع فريسة سهلة للاكتئاب والعجز عن تحقيق الأهداف. 
لعل التنشئة الأسرية هي العامل الأكثر تأثيرا في ترسيخ عقدة الدونية، لأن ملامح شخصية الإنسان تتضح في سنوات الطفولة الست الأولى، وهي المرحلة الأكثر حساسية في العمر، حيث تتشكل القناعات والمفاهيم والمعتقدات. لذلك، نشوء الطفل في عائلة جاهلة بأبسط أساليب التربية، كثيرة الانتقاد وعقد المقارنات، لا تعمل على تعزيز ثقة الطفل بنفسه من خلال الإطراء والتشجيع والحب، فإنه سوف يكون معرّضا لتطوير عقدة الدونية، وما يترتب عليها من تردّي الثقة بالنفس والخوف والتردّد والحساسية المفرطة. وقد تعمّق العيوب والعاهات الجسدية الجسيمة لدى بعضهم الإحساس بالدونية، على الرغم من أن الشواهد التاريخية حافلة بأسماء أصحاب إعاقات جسيمة حقّقوا منجزاتٍ إنسانية كبرى، مثل أبو العلاء المعرّي، طه حسين، دوستويفسكي، ستيفن هوكينغ وغيرهم كثيرون، ممن انتصروا على الإعاقة بالإبداع. 
كذلك سوف يترسخ الإحساس بالدونية، حين يتعرّض الفرد لأيٍّ من أشكال التمييز بناء على العرق أو الدين أو الجنس أو المستوى الاقتصادي أو التحصيل العلمي. في المحصلة، ما زالت دواخل الإنسان غامضة مركبة معقدة، ليس من السهل سبر أغوارها. وعلى الرغم من التقدّم العلمي الهائل في حقل الطب النفسي، إلا أنه ما زال عاجزا عن إدراك ما يعتمل في نفس الواحد منا بشكل دقيق. لذلك علينا، قبل اللجوء إلى الأطباء وخبراء السلوك ومدرّبي التنمية البشرية، التأمل طويلا وعميقا في دواخل أنفسنا وإدراك مكامن ضعفها وتلمس وجعها الحقيقي... عند تلك اللحظة الكاشفة فقط، تبدأ أولى خطوات التحرّر والتعافي.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.