تفسير الماضي بالحاضر

24 يوليو 2023

(كريم رسن)

+ الخط -

مقولاتٌ راسخةٌ، ولكن بعد زمن طويل من حدوثها ونطقها، نجد لها تفسيراً عصرياً يوضح مغزاها الحقيقي، وذلك وفقاً لقراءات لمناهج قرائية أخذت مساراً تراتيباً من التطور. ومن السهل إيجاد أمثلة ونماذج على ذلك. مرّة قال أبو حيان التوحيدي، وهو رجل عاش الفقر والخصاصة وضيق ذات اليد، لكنه كان يمتلك حسّاً حضارياً لم يمنعه من نعت الرجل الأنيق بشريف القدر، حين قال رافعاً من شأن الأناقة والمظهر الخارجي: "الجاهل إذا لبس الثوب الناعم هو أشرف من العالِم إذا لبس الأطمار"، والأطمار هي الملابس الرّثّة. لا بد أنه لا يقصد هنا التقليل من شأن العالِم أو حتى مجرّد دفعه إلى الاهتمام بمظهره، ولكنه يصف الوضع في عصره. ونحن لا يمكن أن نفهم مثل هذا القول إلا بموجب الحضارة الغربية المعاصرة، حيث الأناقة في المظهر من صور هذه الحضارة (أقله في فترة من فترات أوْجها). وفي ذلك أيضاً دليلٌ على أن العرب كانوا، في عصورهم الذهبية، يعيشون حضارة تهتمّ بالمظهر والأناقة، وخصوصاً في العواصم الكبرى، وهنا نتذكّر مثلاً قصة قصيدة علي بن الجهم، ومطلعها عيون المها بين الرصافة والجسر/ جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري. 
هناك كذلك لفظة "جاهلي". وفي هذا السياق، نستحضر معناها الذي يطلق عادةً في مقابل عصر النبوّة المحمدية، فما قبل هذا العصر يسمّى اصطلاحاً العصر الجاهلي. ولكننا سنفهم لاحقاً أن الجاهل أو الجاهلي لا تعني خلوّه من المعرفة. حين نقرأ مقولة للمفكّر الجمالي الفرنسي غاستون باشلار "الجاهل ليس الذي لا يمتلك المعرفة، إنما من يمتلك معرفة خاطئة". لذلك سنفهم، انطلاقاً من هذه المقولة أن عصر ما قبل النبوّة المحمدية كان عصراً تسوده المعرفة الخاطئة، أو الفهم الخاطئ في بعض جوانب الحياة فيه. وليس عصر جهلٍ بمعنى فراغه من المعرفة، بدليل أن هذا العصر أنتج أعظم سِفر بلاغي عرفه العرب، وهو الشعر الجاهلي الذي صار لاحقاً من الشواهد الأساسية لتفسير القرآن الكريم. ويكفي أن تمرّ على بعض كتب التفسير لترى كيف أن المفسّرين يستشهدون بالشعر الجاهلي من أجل تفسير بعض الآيات القرآنية. ولكنه جاهلي حين نرى فيه أن المرأة تُضطهد، والفتاة تُدفن حيّة والأسياد يدوسون على رقاب العبيد والفقراء، والتجارب القبلية والطبقية والاستعباد كانت في أقصى مظاهرها. 
قراءات كثيرة تفكيكية للحياة وتنطلق من التاريخ، نراها تقدّم تفسيراً جديداً، اعتماداً على معطيات العصر الذي نعيش ومقولاته. وهكذا سيظلّ الماضي قابلاً للقراءة الجديدة في كل مرّة، وحاضرنا الذي سيتحوّل إلى ماضٍ سيطاوله شيء من التفسير الجديد، انطلاقاً من مقولات عصرٍ لاحق لعصرنا. حين قرأ المفكّر المغربي عبد السلام بنعبد العالي منجز عبد الفتاح كيليطو، ألّف  كتاباً تحت عنوان "كيليطو تفكيكياً". ولكنه لا يمكن أن يصل إلى هذه النتيجة، لو لم يطّلع على مقولات المفكّر الفرنسي جاك دريدا الذي نحت هذا المفهوم ونظّر له، على ما في هذا المنهج من خللٍ بسبب صعوبة حصر الدلالة والمعنى وتعريضهما، بالتالي، لشتاتٍ لا نهائي. ومن ناحية أخرى، استطاع مفهوم التفكيك، بصورته المعتدلة على الأقل، أن يضعنا أمام قراءاتٍ جديدة للحياة، وخصوصاً في قراءة التراث الديني كما فعل محمد أركون، والأدبي كما فعل عبد الفتاح كيليطو الذي يصعب حصرُه في السياق التفكيكي، يقرأ بحرية ويتجاوز كشوفات المدارس النقدية، فتراه أحياناً أقرب إلى القراءة السيميائية، حين يُكمل دلالة الفكرة ويقدّمها ناضجةً في صيغة جديدة، وذلك انطلاقاً من قراءة خاصّة، ولكن في طريقها تعقد المقارنات وتوازن بين المقولات. ولا يمكن لهذا النوع من القراءات أن يتحصل بدون إلمام صابر وقراءة دؤوبة لمختلف متون التراث. مثلاً، حين كتب كيليطو عن المعرّي، قرأ جميع كتب أبي العلاء، والكتب التي جاء ذكره فيها، ثم بعد ذلك صاغ مادّته في صفحات قليلة أشبه بعصارة، وهي كتابه "أبو العلاء المعري.. أو متاهات القول". كتاب يزاوج بين المعرفة والمتعة، يقرأ تراث أبي العلاء انطلاقاً من معطيات ومصطلحات جديدة. ونراه، أحياناً، يفسّر من جديد أبياتاً ومقولات راسخة، تفسيراً مختلفاً، انطلاقاً من عصر آخر لم يعشه القرّاء المباشرون لأبي العلاء المعرّي.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي